السبت، 19 فبراير 2011

عن المثقف جابر عصفور





تتردد الكلمات هذه في قلبي وضميري منذ خمسة عشر عاما. ووجدت أن انتصار الثورة المصرية مناسبة لتوضيح بعض الحقائق التي ساهم الجهل والكذب في التعمية عليها.
مختصر الحكاية أنني قرأت في العام 1996 مقالا كتبه جابر عصفور عن الترجمة الى العربية. ويستشهد بانحدار مستوى الترجمة هذه بنقل محمد عيتاني (والدي المتوفى قبل صدور المقال بثمانية أعوام)، لكتاب "الايديولوجية العربية المعاصرة" لعبد الله العروي. ويقول أن السبب الذي حمل العروي على اعادة اصدار كتابه في طبعات تالية بترجمته هو متخليا عن ترجمة العيتاني، هي الأخطاء الفادحة الواردة في الترجمة الأولى التي كان الدافع اليها سعي المترجم في جمع المال.

لقد عدت فعلا الى الطبعات التالية لكتاب العروي المذكور، وقرأت في المقدمة نقدا قاسيا للترجمة السابقة (من دون ذكر اسم المترجم)، واعتقد ان اي قارئ منصف سيوافق العروي على حرصه على أن تأتي الترجمة لائقة بالمضمون. ويحق لأي قارئ الاعتراض على مستوى الترجمة إن وجدها غير مناسبة وغير مقنعة. وأجد، شخصيا، بعض العيوب في ترجمات محمد عيتاني ولا ارتاح دائما الى مستواها. لكن الترجمة علم ومدارس, وإلا لم نكن لنجد عشرات الترجمات للأعمال الكلاسيكية، من اليونانية واللاتينية إلى الانكليزية على سبيل المثال. فتطور الدراسات الكلاسيكية يحتم ظهور ترجمات جديدة تلقي الأضواء على ما عسر فهمه على المترجمين السابقين أو ما أهمل هؤلاء من نقاط تحتمل تفسيرات عدة.

بيد أن هذا نصف الموضوع. النصف الثاني من المسألة، هو أن عصفور ارتاح الى اتهام محمد عيتاني بحب المال، وهي التهمة التي لم تكلف ادارة مجلة "العربي" ناشرة المقال، نفسها عناء التدقيق او التحقق منها، سيرا على سنة راسخة في الصحافة العربية في اعتماد الاستسهال الاهمال ولو على حساب كرامة الاموات والاحياء.

كان على المجلة الكويتية أن تدقق في التشهير الذي وجهه عصفور الى عيتاني. فدوافع الناقد الملهم تتراوح بين الجهل والكذب. وهو ما كان ينبغي ان تنتبه "العربي" اليه ولا تفلت له لجام الأكاذيب. فأنا، ابن محمد عيتاني، المترجم المُتهم بالسعي وراء المال وجمع الثروات من كتاب العروي، افتخر أن الرجل لم يترك لي ولأسرته، بعد ثلاثة وعشرين عاما على وفاته سوى بيت ورثه، هو، عن ابيه. الأموال التي يحكي عصفور عنها، يُسأل عنها مخترعها. أما حياتنا اليومية منذ وعينا على الدنيا فهي حياة حد أدنى، وليست قليلة المرات والأعوام التي وقعنا فيها تحت خطه، خلافا لما افترى عصفور كذبا.  
لكنني وأخوتي فخورون بإرثنا من محمد عيتاني. من أعوام عشنا معه ومع ذكائه اللماح وطيبته اللامتناهية. عشنا مع صدقه ونزاهته وتطلبه العميق للعدالة لكل الناس والكرامة للانسان.
وهذا ما يفتقر اليه خصمه العصفور.
لا اعرف كيف اصف حالة الارتياح التي اصابتني عندما عُين العصفور وزيرا للثقافة في حكومة حسني مبارك الأخيرة. شعرت أن كل الترهات التي كان يعظ فيها في الثقافة والاخلاق والمنشورة في الصحف العربية المختلفة، لم تكف لستر العفن المعتمل في معدنه. الانتهازي السفيه ظهر على حقيقته يوم عز الرجال ويوم كان شباب مصر يقتلون برصاص الزبانية في الميادين والساحات.
نعم المسألة شخصية تماما. المسألة تكمن في كمية الكذب والجهل التي تتيح لشخص من طينة عصفور اتهام المثقفين بتهم لم يعد يستطيع رؤيتها وتلمس معناها لالتصاقها الحميم به. هو الحاصل على جائزتي حسني مبارك ومعمر القذافي، يجد في نفسه ما يكفي من الوقاحة لقبول منصب وزير ثقافة في حكومة دوس الشباب بالخيول. والانكى انه يبرر قبوله الجائزتين بأن اللجنتين اللتين منتحتاهما تضم "كتابا كبارا".

ثم يستقيل عصفور من منصبه. ويجد، لحسن حظه، صحفا تفتح له ابوابها لنشر تبريراته التي لا تقنع طفلا في الرابعة من العمر. فهو قد اكتشف بعد عشرة ايام من توليه المنصب الخطأ الذي ارتكبه. ولديه من القحة ما يجعله لا يعتذر عن الخطأ.

ببساطة نقول ان ما جعله يستقيل هو ذات ما جعله يقبل المنصب. قراءته لموازين القوى في الشارع. لقد ظن العصفور، أن التظاهرات ستُباد بمصفحات حبيب العادلي والامن المركزي وان ابواب السلطة فتحت له أخيرا بعدما تسكع امامها طويلا. وعندما انتبه، بعد عشرة ايام الى ان كفة القوى قد مالت الى شباب الثورة، مال معها بكل صفاقة وخان النظام الذي احسن اليه واستقال.

أخيرا، اذا كانت الأوقات الصعبة هي المختبر الذي يصدر الأحكام على معادن الرجال والنساء، فقد أصدرت الثورة المصرية حكمها على عصفور منذ زمن. ولن تفيده تلك المقابلات التي ينشرها له اصدقاؤه في بعض الصحف في جعل الناس ينسون انتهازية مضمخة بالكذب والجهل. لكنها قد تنجح في الحصول له على جمهور من اشباه المثقفين والكتاب يمارس امامهم بهلوانياته الحقيرة.

حسام عيتاني  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق