السبت، 23 أبريل 2011

صرت عدة احيان طالع مع شوفير سرفيس عم يسمع برنامج إذاعي، يعتقد مقدمه انه أحد الامثال الشعبية هو خلاصة الحكمة عبر العصور... كل خمس دقائق بيقول المقدم "انخلي يا مرات حنا ان ضل في طحين".... لا أعرف من اي ثنية من ثنيات دماغ المقدم خرج هذا المثل لكنها تساهم في عدم تحسين صورة سائقي السرفيس في بلادنا

الاثنين، 11 أبريل 2011

كشف سر تكرار سقوط اجدابيا والبريقة

توصلت اليوم الى كشف مدهش حول الأحداث الليبية. فكل يوم استمع إلى المتحدثين باسم الثوار يقولون أن وضعهم ممتاز ويحققون المزيد من التقدم. واتابع الأخبار لاكتشف ان اجدابيا سقطت بعد البريقة بأيدي قوات القذافي. في اليوم التالي يتكرر الموضوع لكن الثوار هم من يسيطر على المدينتين. فاشتبه الأمر علي وشككت في صدق ما يقول الثوار والمتحدثون باسمهم على القنوات الفضائية المعتمدة في نقل أخبار (بعض) الثورات.
إلى ان قررت الاستعانة بخريطة لليبيا حيث كانت المفاجأة الكبيرة: هناك سلسلة طويلة من المدن التي تحمل اسمي اجدابيا والبريقة على طول الساحل الليبي. وعندما يعلن الثوار انهم تقدموا الى اجدابيا يكونون فعلا تقدموا الى أجدابيا غير التي سقطت في اليوم السابق. وعندما يقولون انهم في البريقة، تكون هذه بلدة تحمل ذات اسم البلدة التي احتلوها قبل ايام. ووفق الخريطة، هناك 24 اجدابيا. 23 البريقة. 15 راس لانوف. وهكذا دواليك.


حسام عيتاني

السبت، 9 أبريل 2011

إلى الأدعياء في يوم سقوط بغداد

في الذكرى الثامنة لسقوط بغداد، علت أصوات تنعي على كثر من المثقفين والكتاب العرب افراطهم في الاهتمام بالثورات العربية الدائرة اليوم، في ليبيا واليمن وسوريا، وتناسيهم المناسبة وما شكلته من بداية لعهد من الاحتلال والارهاب والموت في العراق. الأصوات ذاتها وما يدانيها ويكافئها، نددت تنديدا مريرا بتغافل مزعوم عن العدوان الاسرائيلي المتصاعد على قطاع غزة.

في البال ملاحظات بسيطة وسريعة على النعي والتنديد المذكورين. فاهتمام الكثرة من الكتاب بالثورات العربية، علامة صحية على الاهتمام بالحاضر والمستقبل. وقد نذهب إلى القول إلى انه يؤشر إلى هضم المثقين هؤلاء لدروس احتلال بغداد وتوجيه انظارهم بالاستفادة من الدرس ذاك. 

اكثر من ذلك، نقول أن الاهتمام بالثورات العربية وبكل ما يحف بها من تفاصيل وأخطار جسيمة، ينم عن وعي للعلاقة السببية بين الاستبداد وبين الاحتلال. بين خلق الشروط الداخلية لاستدعاء الغزو الاجنبي وبين العجز الفاضح عن مقاومة الغزو هذا متى جاء. ذرائع الغزو والاحتلال ليست مطوية فقط في محاضر اجتماعات الرؤساء الغربيين. بل هي مبذولة امام عيوننا في ليل الاستبداد والظلم والقمع العربي الطويل. وأمن اسرائيل والنفط والاعتبارات الاستراتجية الكبرى، يدخلها في معادلة الغزو الخارجي من يجوف مجتمعه ويحول دون بنائه بناء متوازنا مفتعلا توترات طائفية وعرقية وجهوية لدوام سلطانه العدمي.

ان المسؤول عن الغزو الخارجي، في العراق وليبيا وغيرهما، هو في المقام الأول، ذلك النموذج التسلطي المنقطع عن العالم والمفقتر الى المعنى والمتمسك بأدواته الأمنية المريضة وعنفها المجنون.

أما بالنسبة إلى ما يجري في غزة، فنقول أن ما من حل عادل للقضية الفلسطينية من دون تغيير في "النظامين" الحاكمين في غزة ورام الله واقتناعهما أنهما اضعف بكثير من أن يكونا جزءا من لعبة المحاور العربية -الاقليمية من جهة، وأقل أهمية بالنسبة للعالم من أن يسارع هذا لنجدتهما متى اقتتلا وتناحرا. عليه، تكون الثورات العربية الحالية قدمت اقتراحا بمخرج من الأزمة الوطنية الفلسطينية.

والأدعياء (اقرأ: الأغبياء) الذين يأخذون على الكتاب العرب ما ذكرنا من مآخذ، يتعين عليهم فهم الحقيقة البسيطة القائلة ان الانظمة الآيلة الى السقوط لم تنصر شعبا عربيا عندما عزّ النصير. ولم تدافع عن مدينة فلسطينية او لبنانية او غيرها عندما استذأبت اسرائيل. ونحن على يقين أن ما يدافع عن اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والمصريين واليمنيين والبحرينيين وغيرهم هي أنظمة تقوم على احترام كرامة المواطن وليس امتطائه بذريعة قضية لا تعرف انظمة الاستبداد قيمة لها ولا معنى غير استغلالها للبقاء على رقاب الخلق.

حسام عيتاني

السبت، 26 مارس 2011

ماذا لو....؟

ماذا لو تجددت التظاهرات في سوريا واتسع نطاقها؟

هل سيتجاهل الحكم هناك الأوراق الخارجية التي يملكها؟ دعونا لا ننسى أن للنظام أدوات كثيرة، معلومة ومجهولة، قادرة على قلب الطاولة في المنطقة إذا أحس بدنو ساعته. استعراض تاريخ الحكم منذ السبعينات ومرورا بالثمانينات والتسعينات، يقدم فكرة عما نقول. ثمة وسائل، تبدأ مع أصغر "شبيح" في بيروت ولا تنتهي مع تنظيمات كبيرة ومسلحة حتى الأسنان.

الأساليب ربما خبرناها جميعا. لكن هل هناك ما يمنع من استئناف استخدامها؟
هل هناك ما يمنع من حصول صفقات كبيرة، إذا حصل الحكم في سوريا على ضمانات باطلاق يده في الداخل؟
هل هناك ما يمنع من تسليم "فلان" أو "علان" من اللبنانيين إلى المحكمة الدولية كثمن لاستمرار النظام؟
هل هناك ما يحول دون تفجير الموقف في جنوب لبنان أو غزة إذا فشلت صفقة من هذا النوع؟
وماذا عن إمكان الهروب الى حرب اقليمية أو التهديد بها أو خلق الظروف التي توحي بقرب اشتعالها؟ لا ننسى مهنية "الدفع الى حافة الهاوية" التي يتمتع بها الحكم.
وهل ثمة ما يحول دون توافق أميركي سوري على رأس "حزب الله" مقابل ضمانات بصمت المجتمع الدولي عن كل ما يمكن ان يقع في لبنان وسوريا؟

اسئلة تصعد إلى الرأس بعد الانباء عن رغبة الرئيس السوري باعادة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، وبعد احداث مفاجئة في لبنان وغزة والقدس....

لا استبعد أن يرد البعض قائلا أن الاسئلة هذه تصدر عن جهل مطبق بطبيعة النظام في سوريا وبعمق العلاقة بين دمشق و"حزب الله" و"حماس" الخ... لكن ماذا لو..؟؟؟

الجمعة، 11 مارس 2011

في تكريم جورج طرابيشي*





تبدو محاولة سرد سيرة جورج طرابيشي الشخصية والفكرية أو سبرها، باعتماد أسلوبه وطريقته، من الأمور التي تشق على الباحث.

فلطرابيشي تلك الطريقة التي تشبه البحث عن أثار سير النمل والتدقيق فيها على كثبان رملية تغير الريح معالمها كل بضع ساعات. وأكاد أجزم أن جَلَده وتأنيه في البحث والتمحيص وملاحقة المصادر والأصول هي مما يثير حنق كتابٍ كثرٍ سقط بعضهم في العسير من امتحانات طرابيشي.   

واعترف أنني تأخرت في اكتشاف طرابيشي الكاتب والباحث والمؤلف. وبعد قراءات غير منهجية لترجمات ماركسية وفرويدية، تعرفت اليه عن طريق مقال صحافي تناول كتابه "نظرية العقل" أو الجزء الأول من مشروع "نقد نقد العقل العربي". لا أرغب في العودة الى تلك المعركة بين مشروع "نقد العقل" ومشروع "نقد نقد العقل" لكثرة ما جرى تناولها والحديث عنها. لكنني أود فقط تسجيل مشاعري عند وصولي إلى الصفحة الأخيرة من "نظرية العقل". لقد شعرت بمزيج من الأسف والاعتزاز. أسف على تكرار وقوعنا، كقراء عرب، المرة تلو المرة ضحايا عمليات تزييف واحتيال بل أسمح لنفسي بوصفها بعمليات النصب التي ما كنا لننتبه الى فداحتها وخطورتها لو لم يتنكب هذا العبء كاتب مثل جورج طرابيشي، يشكل - ببساطة - مصدر اعتزاز لكل قارئ بالعربية اليوم. اعتزاز لأن استغباء القارئ العربي صار أصعب.

وكنت مع قراءة كل كتاب من المكتبة الغنية من مؤلفات طرابيشي، في الفلسفة او النقد الأدبي أو البحث المعرفي في التراث العربي الإسلامي، أجد نفسي أمام أسئلة جديدة عن دور الثقافة العربية في كسر حلقات التأخر والاستنقاع والتخلف التي ندور فيها، كشعوب وأنظمة وأشكال حكم وآليات تفكير منذ قرون. ويبدو لي أحياناً أن جورج قرر الاكتفاء بطرح الاسئلة، خصوصا الصعب منها، علينا، قبل أن يتابع رحلته التي تقوده فيها حوافز ودوافع لا نفقهها كلها.

واحد من الاسئلة المطروحة يتعلق بكثرة المحطات في رحلته. بيد أن من ولد في 1939، يبدو التأثر بل الانخراط في التيارات السياسية والفكرية الجارفة من بداهات الانتماء إلى العصر. ومع طرابيشي حل الانتماء باكرا. ومن البعث الى الماركسية فالوجودية وإلى الغوص في التحليل النفسي الفرويدي ثم الابحار في اوقيانوس التراث العربي- الاسلامي، تختصر هذه الرحلة رحلة جيل  عصفت به أحداث كبرى من الحرب العالمية الثانية الى نكبة فلسطين "فالثورات" والانقلابات العسكرية العربية ثم صعود القومية وجمال عبد الناصر ...الخ وصولا إلى هزيمة 1967 التي لم نستفق من الغيبوبة التي أدخلتنا فيها بعد. 

المشكلة التي تواجه قارئ طرابيشي هي محاولته الحصول على موقف سياسي واضح من الكاتب، على طريقة "الاستصراح" التي يستخدمها بعض الصحافيين اللبنانيين مع سياسيينا. يريد بعض القراء أن يحدد جورج موقفه بدقة من هذه المسألة السياسية أو تلك. والقراء العرب يطلبون الكثير من العاملين في شؤون الفكر. ويذهب البعض إلى حصرهم أو حصارهم في مواقف ضيقة بل حزبية. وما يشفع للقارئ العربي في الحاحه على المثقف الادلاء بموقف صريح في السياسة الراهنة، هو الحالة المزرية التي بلغتها أحوال حكوماتنا واحزابنا، المُوالي منها والمُعارض، ووسائل اعلامنا واجتماعنا وثقافتنا. ويمكن، في السياق هذ، النظر إلى التراث  العربي –الإسلامي كسجل للعلاقة المضطربة بين مكونات المجتمعات والمثقف الواقع في خضم آلات القمع السلطوي، الممارس من الحكم أو من المجتمع أو من الدين.   

وطرح جورج طرابيشي عدداً من المسائل السياسية الراهنة في كتبه. كالعلمانية والاسلام السياسي. بيد أن مسائل مثل النهضة العربية والحداثة والعقلانية وأخطار الردة، احتلت مقاما متقدما لديه على المقاربات الآنية.  كتاب "هرطقات" بجزئيه، على سبيل المثال، علامة على الانشغال بالراهن السياسي مع الأخذ في الحسبان الدلالات الثقافية، او بالعكس، أي دراسة الدلالات السياسية والاجتماعية للعمل الثقافي، بحسب ما يظهر من المقال المخصص لرواية نجيب محفوظ "رحلة ابن فطومة".

وفي مجال العمل العام او التأثير فيه، قد لا يكون من المبالغة القول ان جورج طرابيشي كان واحدا من شخصيات اليسار الجديد في الستينات والسبعينات الى جانب صديقيه الياس مرقص وياسين الحافظ.

ويقول جورج طرابيشي  في سيرة ذاتية مختصرة "على أن الفجيعة الكبرى في حياتي كانت هزيمة حزيران المذلّة عام 1967. ولكنها كانت هي أيضاً عامل التحول في وعيي من العقل الإيديولوجي الى العقل النقدي. وقد مرّ هذا التحول بمراحل ثلاث: من المرحلة القومية العربية الى المرحلة الماركسية بطبعتها الوجودية السارترية ذات النَفَس النقدي. ولكن انتصار سارتر للثورة الثقافية الصينية ولكتاب ماو الأحمر أحدث انتفاضة جديدة في وعيي وحسّي النقدي، فكان تحولي نحو الفرويدية وإقامتي في قصر التحليل النفسي وسجنه معاً على مدى سنوات عشر تزامنت مع هجرتي من سورية الى لبنان، أي من وطني بالولادة الى وطني بالإرادة كما كنت أقول دوماً عن هذا البلد الذي أحببته والذي ما زادتني آلامه إلا حباً له بعد أن أقمت فيه اثني عشر عاما ً. ومنه هاجرت –وقد أتعبتني حربه الأهلية- الى فرنسا حيث لا أزال أقيم منذ عام 1984."

وحتى الآن أزعم أنني لم أحط سوى بجزء يسير من عوالم جورج طرابيشي. في رحلته من الدراسة الى التعليم الى العمل الاذاعي ثم رئاسة تحرير "دراسات عربية" ثم اصدار مجلة "الوحدة" في باريس، قبل التفرغ الى الكتابة. يحف بهذا كله عشرات من الكتب المترجمة (يزيد عن المئة) ومقالات أكثرها في عرض ونقد كتب جديدة.

تنوع المهن يسير يدا بيد مع تنوع واتساع في الاهتمامات. وإذا قمنا باسترجاع عناوين فصول "وحدة العقل العربي الاسلامي" الصادر عام 2002 ضمن مشروع "نقد نقد العقل العربي"، لوجدنا طيفا عريضا من الاهتمامات يمتد من الفلسفة اليونانية الى تلك العربية مرورا بالفقه الاسلامي (الذي سيكون لطرابيشي وقفة طويلة معه في كتابه الذي وقعه اليوم، "من اسلام القرآن إلى اسلام الحديث- النشأة المستأنفة") إلى اللغة وفقهها.

هموم او اهتمامات طرابيشي تمتد لتبلغ كتابات حسن حنفي في "ازدواجية العقل"، وروايات حينا مينا ومبارك ربيع في "الروائي وبطله"، حيث استخدم في الدراستين ادوات التحليل النفسي والجمالي. في القسم الاول من الكتاب، يقدم لنا عرضا نادرا في الادبيات العربية، لآليات التعويض النفسي حيث يحل الحزب القائد واوهامه الايديولوجية مكان الأب في الاسرة البطريركية الشرقية. ليس النموذج هذا سوى عينة مما يحملني على القول انه تبدو لي غاية في الأهمية الآثار التي تركتها المرحلة الفرويدية على طرابيشي، لكننا نرى ايضا آثار ترجماته لهيغل وأعماله في علم الجمال الكلاسيكي.

لكن ما هو التعريف الأقرب إلى وصف "حالة" جورج طرابيشي، إذا جاز القول. هل هو "مفكر" أم ناقد؟ السؤال هذا يبدو صادرا عن هوس يلاحقنا، كقراء، بالتصنيفات والتعريفات. لذا نقول ان طرابيشي في تفنيده لمشروع نقد العقل العربي، الذي كان المشروع الفكري للراحل محمد عابد الجابري، أظهر كل صفات الناقد الصارم الذي يلاحق عمله إلى أدق التفاصيل كأرقام الصفحات في المصادر المستخدمة ورقم الطبعات ومساءلة الترجمات المعتمدة، ووضع كل "الممارسات" النقدية هذه في خدمة غاية واحدة هي عرض نقاط الضعف في البنيان المنقود والرؤى الاحادية والمضللة التي أقيم البنيان ذاك عليها. في احيان يخرج جورج طرابيشي علينا كفيلسوف واحيانا اخرى نراه ناقدا ادبيا وفي كتبه الجديدة نجده فقيها مجادلا المذاهب واهلها وائمتها ومن دون ان ننسى االغوي. لكنه في المرات كلها يفعل ذلك بحرص شديد ودقة، اقول بأسف انهما غير مألوفين في عالمنا العربي.

والكتب التي خصصها جورج طرابيشي لنقد مشروع الجابري، والكتب المتفرعة عن النقد هذا كـ"المعجزة في الاسلام" و"مصائر الفلسفة بين المسيحية والاسلام"، تدمج صفتي "الناقد" و"المفكر". لم يقدم ضيفنا اليوم مشروعه في كتاب او سلسلة كتب محددة، وان قال في غير مكان ان الكتب الخمسة (أو الاربعة إذا سحب منها كتاب "من اسلام القرآن...") التي نقد فيها "نقد العقل العربي" اكتسبت استقلالها وباتت تشكل مشروعا منفصلا عن سببها المباشر.

واذا شئنا صوغ مشروع جورج طرابيشي في كلمات أو جمل موجزة، لقلنا أن الرجل يبحث في ما كوّن الثقافة العربية المعاصرة وفي ما يمكن أن يغيرها. من هنا اهتمامه بالابيستمولوجيا ومحاولته اعادة وضعها في نصابها. ومن هنا صراعه الدائم مع كل انواع الابتسار والاختزال سواء من النوع الرامي الى فرض صور نمطية على الحضارة والفكري العربيين –الاسلاميين، أو ذلك الناجم عن قلة الدراية والقافز صوب بناء استنتاجات كبرى تأسيسا على معرفة ناقصة ومشوهة. وكُتبُ جورج طرابيشي غنية بالأمثلة التي يسوقها كاتبها للحيلولة دون نشوء أي شبهة او ظل شبهة. كاللائحة التي ارودها في "نظرية العقل" لاسماء الثلج وأصنافه باللغة العربية ردا على قائل ببداوة اللغة العربية والتصاقها التام ببيئة صحراوية ضحلة وفقيرة اسفرت عن فقر في الخيال. اسلوب ادراج المصادر واللوائح التي تضرب مقولة الخصم كالطوفان، نجدها في مواضع مختلفة، بحيث لا يعود من مجال للشك في ما يذهب اليه طرابيشي.

وإذا أردت ان اكمل الصورة، لقلت أنني على اطلاع على النقد الموجه الى مؤلفات جورج طرابيشي وأن بعضا من النقد هذا يسـتحق نقاشا موضوعيا. أي من صنف النقاش الذي يتطلبه نقد طرابيشي لمؤلفات كتاب آخرين امتنعوا عن خوض هذا اليم مفضلين البقاء قرب الشاطئ آمنين.
                                                               حسام عيتاني

____________________
*القيت في الحفل الذي اقامته "الحركة الثقافية في انطلياس" لتكريم جورج طرابيشي في 6 آذار 2011








     


الجمعة، 4 مارس 2011

أوهام!



استقالة رئيسي الوزراء التونسي والمصري محمد الغنوشي وأحمد شفيق من منصبيهما واكتساب الثورة الليبية المزيد من التأييد الداخلي والدولي واتساع التحركات المناهضة لنظام علي عبدالله صالح في اليمن وتجذر مطالب المعارضة البحرينية، هي عناوين أحداث الأيام الماضية.
وعند إضافة إمكان تمدد التحركات المطالبة بالإصلاح إلى العراق ولبنان وغيرهما، يبدو لنا أن ركاماً عالياً من الأوهام قد بدأ بالانهيار وأن الغبار يلف الجميع ليطلق أوهاماً جديدة، بدوره.
فواهم من يعتقد أن في الوسع تطويق زخم الثورتين التونسية والمصرية، على ما دلت الإطاحة بالغنوشي وشفيق. وواهم من يعتقد أن الهياكل الإعلامية للنظامين السابقين ستبقى في منأى عن المساءلة، على ما يرى بعض انتهازيي الصحافة المصرية، على سبيل المثال، والذين بدلوا مواقفهم من الدعوة الصريحة إلى سحق وإحراق المتظاهرين في ميدان التحرير إلى التمسّح بهم طلباً لبركات الثورة، في أقل من أربع وعشرين ساعة.
وواهم من يراهن على أن النظام الأمني –البيروقراطي في تونس ومصر سيبقى مغلقاً ومليئاً بالألغاز العصية على فهم الثوار، حتى لو أُضرمت النار في كل المراكز الأمنية التونسية أو هُرّبت ملفات أجهزة المباحث وأمن الدولة وغيرها في مصر.
وواهم من يقول أن الثورات العربية ستتوقف عند القشور ولن تبلغ عمق التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للبلاد التي تأثرت بالأحداث الأخيرة وأن الأوضاع ستعود إلى ما كانت عليه في أعوام الركود المصري والاستبداد التونسي. نظرة سريعة الى المأزق الذي تعانيه البورصة المصرية التي تؤجل عودتها الى العمل منذ أكثر من شهر، كفيلة بطرح أسئلة كثيرة عن مستقبل رؤوس الأموال التي جمعت من نهب المال العام وكيفية تعامل السلطات الجديدة معها، وما يتفرع عن ذلك من سؤال عن مصير الطبقة الطفيلية التي تعيشت طويلاً على عرق المصريين والتونسيين.
وواهم من يظن أن مد التغيير العربي لن يصل إليه. وبغض النظر عن الجدال في دور القضية الفلسطينية وموقف الأنظمة المنهارة منها، وبغض النظر عن مقولات عودة الحياة الى القومية العربية التقليدية (بصيغتيها البعثية والناصرية) في الوقت الذي تعلن الثورات طلاقها مع أنظمة استمدت شرعيتها من النظرية تلك، تتشارك الشعوب العربية في تفارقها الهائل عن الأنظمة الحاكمة والقيم المفروضة عليها.
وإذا كان بعض السياسيين (في لبنان، مثلاً) قد لاحظ أن ما من تظاهرة واحدة قصدت السفارتين الإسرائيلية أو الأميركية في القاهرة، فذلك لا يعني تجاهلاً للمكون الوطني المناهض للاحتلال في التحركات العربية، بل على العكس تماماً. إن ذلك يشير إلى أن النظرة السابقة الى الصراع العربي –الإسرائيلي تخضع حاليا لإعادة تقييم عميقة تأخذ في الاعتبار المصالح الملموسة للدولة الوطنية، بعيداً عن شعارات استغلتها الأنظمة لتفرغها من كل مضمون حتى باتت أشبه بالإهانة الموجهة الى المواطن العربي.
في المقابل، واهم من يستسهل تقدم الثورات واتساع رقعتها وتعميقها مكتسباتها. وما يجري في تونس ومصر من مقاومة شرسة تبديها بقايا النظامين السابقين والحرب التي يشنها القذافي على شعبه، علامات صريحة على أن الماضي يأبى أن يمضي قبل أن يستنفد كل فرصه وحظوظه حتى لو غرق العالم العربي بأسره بالدماء.
وواهم من يحصر مطالبه بتغيير صورة الحاكم في الدوائر الرسمية. والانتكاسات والتراجعات وتسلل النخب القديمة من نوافذ البيوت التي طردوا من أبوابها، هي من الممارسات المرافقة لحركات التغيير في تاريخ العالم. ونهاية «الاستثناء العربي» تملي الاستعداد للانخراط في التاريخ.

حسام عيتاني -"الحياة" 

الجمعة، 25 فبراير 2011

الثورة الليبية بين ماريا كاري وبيونسيه

خصصت ساعات بعد الظهر اليوم للبحث في قضية مثيرة للريبة تنطوي على تآمر أميركي من صنف جديد على الثورة الليبية. فقد قرأت أن الفنانة الاميركية ماريا كاري غنت في حفل أقامه سيف الاسلام القذافي في جزيرة في البحر الكاريبي وحصلت على 1.2 مليون دولار مقابل اربع أغنيات.

وقد نفى سيف الاسلام الواقعة وقال ان شقيقه هنبعل، ضارب الخدم المغربي في سويسرا بالشراكة مع زوجته اللبنانية، هو من أقام هذا الحفل.

الحقيقة التي كشفتها تحرياتي أن المغنية بيونسيه هي التي احيت الحفل في جزيرة سانت بارتولوميو في الكاريبي مقابل مليوني دولار دفعهما هنبعل، فيما خرجت ماريا كاري من القصة مثل الشعرة من العجينة. والمناسبة كانت ليلة رأس السنة 2010 وقد حضرت بيونسيه مع زوجها "جيه زي" الى الجزيرة بطائرة خاصة وغادرا فور انتهاء الوصلة الطربية.

وأقر أني شعرت بخيبة أمل. ليس لهول المبلغ المُبذر ولا للاستلاب الثقافي للاخ هنبعل الذي فضل بيونسيه على شيخ القدود الحلبية صبري مدلل او صباح فخري (على الاقل)، بل لأنني اعتقدت ان السيدة بيونسيه ليست واطية الى هذه الدرجة. فرغم انها تملك حوالي مليار دولار، تذهب لتغني في حفلات هنبعل القذافي. تفو...

الأربعاء، 23 فبراير 2011

لا "للتدخل الانساني"

رغم الالم الذي يولده عنف نظام القذافي ضد الشعب الليبي، ورغم التعاطف الكامل مع مأساة الليبيين، تشكل الفكرة التي يكثر تداولها في وسائل الاعلام الغربية عن قيام قوات من حلف شمال الاطلسي بتدخل انساني لوقف جرائم القذافي، سوء فهم عميق لما يجري في العالم العربي وخطر جدي يهدد الحركة الديموقراطية العربية.

باختصار شديد، سيؤدي أي نزول لقوات الاطلسي في ليبيا وبغض النظر عن الذرائع، إلى اجهاض كل الثورات العربية، التي نجحت والجارية اليوم والتي تتحضر للانطلاق. سيضع الانزال "الانساني" الثورات في خانة عودة السيطرة الغربية على المنطقة وسيمنح انظمة الاستبداد العربية القائمة المزيد من الذرائع للتمسك بالسلطة.

ومن جهة ثانية، سيعني أي تدخل انساني في ليبيا، رفع عقيرة أنظمة الممانعة وممارستها الضغط على قوى التغيير لمنعها من القيام بأي تحرك. بكلمات أخرى، سنكون أمام تكرار للغزو الأميركي للعراق والنتائج الكارثية التي جلبها لقوى التحرر والديموقراطية والتغيير العربية. وسترفع الحكومات العربية التسلطية ذات الشعار الذي رفعته بعد الغزو الاميركي للعراق: التغيير يعني الاحتلال الغربي والاقتتال الطائفي -القبلي.

لا نريد رؤية التاريخ يتكرر على هذه الصورة الكارثية مرتين في أقل من عقد واحد.

حسام عيتاني

الاثنين، 21 فبراير 2011

خطاب يختصر الفكر السياسي العربي

في اقل من 24 ساعة، نال خطاب سيف الاسلام القذافي من التنديد والاستنكار وأسال حبرا يزيد عن كل ما اسالته خطابات رئيس جمهوريتنا منذ توليه الحكم.

لقد قيل أنه يحمل تهديدات للداخل بالحرب الاهلية وبانهار الدماء وخسارة النفط والعودة الى زمن لم يكن الليبيون يعرفون فيه المدارس والمستشفيات. قال سيف الاسلام أنه وأبيه واخوته متمسكون بالسلطة لأنهم العلاج الوحيد المتوفر لأمراض ليبيا التي لا علاج لها. إذا ازيح "قائد الشعب" القذافي الأب، سيعود الاستعمار وستغرق البلاد في لجج عميق من اللهب والنار والموت. هم أو الدمار العميم، قال. كما وجه تهديدات الى الخارج ملوحا بقيام دويلات اسلامية ارهابية محذرا من تدفق اللاجئين الليبيين والأفارقة على اوروبا.

المهم في الخطاب، انه كشف الخطاب الحقيقي المضمر للحكم في ليبيا ونزعم انه خطاب الانظمة العربية كلها. بعد عقود من التغني بالقومية العربية والتكوين الطبيعي للوطن العربي الذي جزأه الاستعمار، جاء ابن من ملأ الدنيا ثرثرة ولغوا عن العرب والعروبة والتواصل الطبيعي، ليقول بكلمات لا لبس فيها ولا تأويل لها أن ليبيا انشأتها شركة نفط أميركية للحيلولة دون اقتتال ابناء الوطن الواحد على غرار ما جرى عام 1936. واعلن أن ما من شيء يجمع الليبيين في بلد واحد سوى حاجتهم الى استغلال النفط، المورد الوحيد لرزق البلاد وسكانها. ومن باب أولى ألا تكون أي مبررات لوحدة عربية من المحيط الى الخليج من دون نفط. الرسالة الخالدة لا تطعم خبزا على ما كشف القذافي جونيور لنا.

ولعلها المرة الأولى التي يخرج شخص من صلب نظام عربي حاكم ليسمي الأمور بأسمائها الصريحة من دون لف ودوران: نحن نتيجة الاستعمار وأخوتنا ناجمة عن حاجتنا الى الخبز. لم يصارح حاكم عربي مواطنيه بكلمات على الدرجة هذه من الوضوح منذ ان توقف بث محاكمات الجزراوي، على الأقل.

وطرح القذافي الابن امامنا، الحقيقة الوحيدة للخطاب السياسي العربي، بما هو تكثيف لفكر سلطة تقوم على القسر والقمع والانتهاك، لكنها لا تجرؤ على اظهار وجهها الحقيقي الا لضحاياها. 

جفت الاقلام ورفعت الصحف.


حسام عيتاني

السبت، 19 فبراير 2011

عن المثقف جابر عصفور





تتردد الكلمات هذه في قلبي وضميري منذ خمسة عشر عاما. ووجدت أن انتصار الثورة المصرية مناسبة لتوضيح بعض الحقائق التي ساهم الجهل والكذب في التعمية عليها.
مختصر الحكاية أنني قرأت في العام 1996 مقالا كتبه جابر عصفور عن الترجمة الى العربية. ويستشهد بانحدار مستوى الترجمة هذه بنقل محمد عيتاني (والدي المتوفى قبل صدور المقال بثمانية أعوام)، لكتاب "الايديولوجية العربية المعاصرة" لعبد الله العروي. ويقول أن السبب الذي حمل العروي على اعادة اصدار كتابه في طبعات تالية بترجمته هو متخليا عن ترجمة العيتاني، هي الأخطاء الفادحة الواردة في الترجمة الأولى التي كان الدافع اليها سعي المترجم في جمع المال.

لقد عدت فعلا الى الطبعات التالية لكتاب العروي المذكور، وقرأت في المقدمة نقدا قاسيا للترجمة السابقة (من دون ذكر اسم المترجم)، واعتقد ان اي قارئ منصف سيوافق العروي على حرصه على أن تأتي الترجمة لائقة بالمضمون. ويحق لأي قارئ الاعتراض على مستوى الترجمة إن وجدها غير مناسبة وغير مقنعة. وأجد، شخصيا، بعض العيوب في ترجمات محمد عيتاني ولا ارتاح دائما الى مستواها. لكن الترجمة علم ومدارس, وإلا لم نكن لنجد عشرات الترجمات للأعمال الكلاسيكية، من اليونانية واللاتينية إلى الانكليزية على سبيل المثال. فتطور الدراسات الكلاسيكية يحتم ظهور ترجمات جديدة تلقي الأضواء على ما عسر فهمه على المترجمين السابقين أو ما أهمل هؤلاء من نقاط تحتمل تفسيرات عدة.

بيد أن هذا نصف الموضوع. النصف الثاني من المسألة، هو أن عصفور ارتاح الى اتهام محمد عيتاني بحب المال، وهي التهمة التي لم تكلف ادارة مجلة "العربي" ناشرة المقال، نفسها عناء التدقيق او التحقق منها، سيرا على سنة راسخة في الصحافة العربية في اعتماد الاستسهال الاهمال ولو على حساب كرامة الاموات والاحياء.

كان على المجلة الكويتية أن تدقق في التشهير الذي وجهه عصفور الى عيتاني. فدوافع الناقد الملهم تتراوح بين الجهل والكذب. وهو ما كان ينبغي ان تنتبه "العربي" اليه ولا تفلت له لجام الأكاذيب. فأنا، ابن محمد عيتاني، المترجم المُتهم بالسعي وراء المال وجمع الثروات من كتاب العروي، افتخر أن الرجل لم يترك لي ولأسرته، بعد ثلاثة وعشرين عاما على وفاته سوى بيت ورثه، هو، عن ابيه. الأموال التي يحكي عصفور عنها، يُسأل عنها مخترعها. أما حياتنا اليومية منذ وعينا على الدنيا فهي حياة حد أدنى، وليست قليلة المرات والأعوام التي وقعنا فيها تحت خطه، خلافا لما افترى عصفور كذبا.  
لكنني وأخوتي فخورون بإرثنا من محمد عيتاني. من أعوام عشنا معه ومع ذكائه اللماح وطيبته اللامتناهية. عشنا مع صدقه ونزاهته وتطلبه العميق للعدالة لكل الناس والكرامة للانسان.
وهذا ما يفتقر اليه خصمه العصفور.
لا اعرف كيف اصف حالة الارتياح التي اصابتني عندما عُين العصفور وزيرا للثقافة في حكومة حسني مبارك الأخيرة. شعرت أن كل الترهات التي كان يعظ فيها في الثقافة والاخلاق والمنشورة في الصحف العربية المختلفة، لم تكف لستر العفن المعتمل في معدنه. الانتهازي السفيه ظهر على حقيقته يوم عز الرجال ويوم كان شباب مصر يقتلون برصاص الزبانية في الميادين والساحات.
نعم المسألة شخصية تماما. المسألة تكمن في كمية الكذب والجهل التي تتيح لشخص من طينة عصفور اتهام المثقفين بتهم لم يعد يستطيع رؤيتها وتلمس معناها لالتصاقها الحميم به. هو الحاصل على جائزتي حسني مبارك ومعمر القذافي، يجد في نفسه ما يكفي من الوقاحة لقبول منصب وزير ثقافة في حكومة دوس الشباب بالخيول. والانكى انه يبرر قبوله الجائزتين بأن اللجنتين اللتين منتحتاهما تضم "كتابا كبارا".

ثم يستقيل عصفور من منصبه. ويجد، لحسن حظه، صحفا تفتح له ابوابها لنشر تبريراته التي لا تقنع طفلا في الرابعة من العمر. فهو قد اكتشف بعد عشرة ايام من توليه المنصب الخطأ الذي ارتكبه. ولديه من القحة ما يجعله لا يعتذر عن الخطأ.

ببساطة نقول ان ما جعله يستقيل هو ذات ما جعله يقبل المنصب. قراءته لموازين القوى في الشارع. لقد ظن العصفور، أن التظاهرات ستُباد بمصفحات حبيب العادلي والامن المركزي وان ابواب السلطة فتحت له أخيرا بعدما تسكع امامها طويلا. وعندما انتبه، بعد عشرة ايام الى ان كفة القوى قد مالت الى شباب الثورة، مال معها بكل صفاقة وخان النظام الذي احسن اليه واستقال.

أخيرا، اذا كانت الأوقات الصعبة هي المختبر الذي يصدر الأحكام على معادن الرجال والنساء، فقد أصدرت الثورة المصرية حكمها على عصفور منذ زمن. ولن تفيده تلك المقابلات التي ينشرها له اصدقاؤه في بعض الصحف في جعل الناس ينسون انتهازية مضمخة بالكذب والجهل. لكنها قد تنجح في الحصول له على جمهور من اشباه المثقفين والكتاب يمارس امامهم بهلوانياته الحقيرة.

حسام عيتاني  

الأحد، 6 فبراير 2011

هل يُعاد تعريف أحجام الدول العربية؟

لم يعد أي من الأصدقاء يعرف أين أصبحت المشاورات الرامية الى تشكيل الحكومة اللبنانية. باتت الأسئلة عما رشح من لقاءات الرئيس المكلف مع المسؤولين في قوى الموالاة والمعارضة السابقتين تقابَل بنظرات استغراب. عاد تشكيل الحكومة اختصاصاً سرياً لا يفقه رموزه وإشارته سوى قلة من الزملاء المعنيين حصراً بالسياسة اللبنانية.
تفسير ذلك موجود في عبارة من كلمتين تكفيان لإعادة كل نقاش إلى الحيز الذي يتراءى للجالسين أنه يستحق نقاشاً: «هذه مصر». ليس حجم التحرك وحده ما يجذب الأبصار، بل وقوعه في أكبر دولة عربية وأهمها من نواحٍ كثيرة ليس أقلها التاريخ والتأثير الثقافي والموقع الاستراتيجي.
ولعلنا ننتمي إلى جيل نسي الأثر المصري في الحياة العامة بسبب انقطاعه منذ بداية عهد الرئيس حسني مبارك، لأسباب عدة. ففي العقود الثلاثة الماضية لم تعد تأتينا من مصر أفكار ذات قيمة، سواء في السياسة أو الفنون أو الآداب. وبدا أن إخوتنا الذين ربّوا أجيــالاً سابقـــة مــــن المشرقييـــن والمغاربة على تذوق الفن المصــــري وعلــى تقديـــم مصر في الريادة في مجالات شتى، قد أصيبوا بالقحط وراح يظهر من بينهم من يقدم القديم والمبتذل والهالك على أنه أفضل ما يمكن ابتكاره. كان التراجع المصري العلامة الأبرز على النكبة التي أصابت العالم العربي معلنة فشل مشاريع التنمية والنهوض والحداثة، بمعانيها السياسية والاجتماعية والثقافية.
وربــــما يحق للبنانيين التأمل في معنى اجتياح اسرائيل بلدهم واحتلالهــــا عاصمتهم وتنصيبها رئيساً عليهم، عام 1982، بالتزامن مع تكريس الاختلال الهائل في موازين القوى الذي أحدثه خروج مصر ليس من الصراع العربي - الاسرائيلي فحسب، بل من كل مجـــال التأثير والفعل في المنطقة، واكتفاء الحكم فيها باتباع سياسة العداء للسياسة بما هي تفاعل وتداول ومشاركة وتبادل. الاجتياح الإسرائيلي لبنان كان علامة أولى وكبيرة على ما ينتظر الدول العربية من مآسٍ قد لا يكون غزو العراق ودماره سوى واحدة منها.
هذا ما تقوله الجغرافيا السياسية بمعادلاتها الكلاسيكية عن موازين القوى وحسابات الامتلاء والفراغ والجذب والدفع التي تشكلها المصالح المادية والإغراءات الاستراتيجية لكل مناطق العالم.
تقلص الدور المصري في الجوار العربي بذريعة الاهتمام بالقضايا الداخلية الاقتصادية والاجتماعية، شرع الأبواب أمام دول وقوى سعت الى ملء الفراغ. ومن «جبهة الصمود والتصدي» أواخر السبعينات، إلى «محور الممانعة» في العقد الأول من القرن الحالي، بــدا أن المنطقة لا تفلح في الشفاء من عرج يجعل سيرها أشبه بسلسلة لا تنتهي من حوادث السقوط ومحاولات القيام ثم السقوط من جديد.
وما قيل عن «عودة مصر» في النصف الثاني من الثمانينات بعد استئناف العلاقات الديبلوماسية بين الدول العربية والقاهرة التي استعادت مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية (ومنصب الأمين العام)، لم يجد ترجمة عميقة له بين العرب، ليس لأن هؤلاء تغيروا في الثمانينات بعد ظهور جملة تحديات جديدة كالجمهورية الإسلامية في إيران والحرب العراقية - الإيرانية وانكشاف اهتراء الوضع العربي بعد العجز عن فرض حل سلمي في لبنان، بل أيضاً لأن مصر ذاتها قد تغيرت، ولأنها «عادت» نصف عودة، بسفاراتها وديبلوماسييها، لكنها عادت خالية من الحيوية والأدوار والأفكار التي كانت تحملها وتوزعها وتؤديها، على نحو كان يثير ضيق «الإخوة» والجيران.
لكن مجــــرد دبيب الروح في شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس وغيرها من المدن، بيّن أن مركز منطقتنا هو الذي انتفض وليس فرعاً أو ناحية قصيّة هامشية. وظهر مجدداً ضعف بل هزال كل دولة أو مدينة سعى أصحابها الى تكريسها مركزاً بديلاً عن القاهرة.
صحيــــح أنه من المبكر وقد يدخل في باب الافتعال، القول إن توازنــــاً سياسياً جديداً، سواء في الصراع العربي – الإسرائيلي او العلاقات العربية - الإيرانية أو في السعي إلى بناء مجتمع مدني وسلطــــة ديموقراطية عربيين، سينشأ عندنا وأن دولة الاستبداد العربيـــــة قد أزف وقت رحيلها. بيد أننا لا نستطيع الزعم، في المقابــــل، أن شيـــئــاً لـــــم يحدث وأن يقظة «الشباب المصري العظيم» لا تعني سوى تغيير طفيف وشكلي على سطح السلطة في مصر.
ما حـــدث وما سيحدث كبيــــر الأهمية، لا شك في ذلك ولا لبــــس. وسيتـــــرك أثره في المنطقة بأسرها، على ما تجمع أقلام وآراء من مشــــارب ومنابــــت مختلفة. و«عودة مصر»، بالمعنى هذا، قد لا تكون عودة مرحباً بها ممن سعى إلى احتلال موقع مصر في السياسة والاقتصاد وغيرهما. لكن ذلك لن يحول دون أن تؤدي مصر دوراً جديداً في المنطقة يختلف كثيراً عن ذلك الذي ألفه أهل المشرق العربي منذ ثلث قرن على الأقل.
وإذا كـــان استئناف الدور السياسي المصري يبدو في حكم المؤكــــد، بسبــــب ارتباطـــه بحماية المصالح المباشرة للدولة الوطنية المصرية والعمل على الاستجابة لمطالب الإصلاح التي عبرت عنها ثورة الشباب المصري، فهل يجوز الاعتقاد أن تغييرات مهمة ستدخل قريباً على دورة الاقتصاد المصري المصاب بأمراض الطفيلية والفساد وضآلة الكفاءات الماهرة (من غير المهاجرة)؟ وهل يعني ذلك أن خطاً مباشرا أقيم بين الحراك السياسي وبين كسر قوالب النمطية المفلسة التي أحاطت مجمل الإنتاج الثقافي المصري؟
على غرار كل انقلاب كبير، تطرح الثورة المصرية أسئلة أكثر مما تقدم من أجوبة. وبصرف النظر عن المآل الأخير للسلطة السياسية في القاهرة، يبدو الرهان على بداية مرحلة جديدة تحمل الكثير من الآمال، رهاناً رابحاً.

حسام عيتاني- "الحياة" 

وتيرتا لاهاي

في لاهاي معضلات أخرى غير تلك التي في بيروت، فالمحاكم الدولية المنتشرة في المدينة وفي ضواحيها حائرة بالوظائف التي أناطها بها المجتمع الدولي، على نحو صار بوسع زائر عابر سماع ضجيج القاعات المغلقة التي يتناقش فيها قانونيون حول "ما يعوق العدالة الدولية". ولعل في الكثير من هذه النقاشات ما يضفي على انقسامنا كلبنانيين حول محكمتنا، تلك التي أنشأها لنا مجلس الأمن الدولي، بعض الدلالات المختلفة.

أحد عناوين النقاش في لاهاي، وهو غير مرتبط حصراً بمحكمتنا، هو ذلك الفارق بين الوتيرة السياسية لتأسيس المحاكم، والوتيرة القانونية. فالمحاكم الدولية الخاصة (يوغسلافيا – رواندا- سيراليون-لبنان) أُنشئت بقرارات سياسية، أصدرتها أعلى هيئة سياسية دولية، هي مجلس الأمن. وصدرت هذه القرارات بلحظة سياسية أحاطت بها ظروف، وحركتها رغبات وإرادات دولية، أفضت الى تكليف قضاة وقانونيين بالسير في قضية وفق منطق قضائي ومسار طويل يقتضي السير به وقتاً وشروطاً وقواعد لا تقيم للحظة السياسية تلك وزناً وقيمة.

لكن وفي جميع حالات اشتغال السياق العدلي والقضائي، وسيره البطيء والحذر، يحصل ان الظروف السياسية التي أنتجته، تتبدل على نحو دراماتيكي. ومن دون الإتيان بأمثلة بعيدة عن هذا التبدل، يمكن استحضار الحالة اللبنانية بصفتها النموذج الأقرب زمنياً على هذا الصعيد. فالمحكمة اللبنانية أنشأها قرار دولي في لحظة سياسية دولية شديدة الاختلاف عن ما أعقبها، سواء لجهة الأطراف الدولية، او المعادلة السياسية الداخلية. فالأعضاء الدائمون في مجلس الأمن ممن كانوا أشد حماسة لتأسيس المحكمة، وهم الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا، تغيرت ادارات الحكم فيهم على نحو جوهري، وتغير فيها المزاج السياسي أيضاً. صرنا في لحظة سياسية مختلفة تماماً، فيما اللحظة القضائية هنا في لاهاي ما زالت سائرة ببطئها ورتابتها العتيدة غير آبهة بذلك الضجيج السياسي الذي أحدثته التبدلات في دول القرار الدولي.

الصدام يحصل هنا، اذ ان العدالة في سيرها البطيء هذا تعوزها قوة دفع سياسية ما عادت توفرها الشروط الجديدة. صحيح ان التزام الدول تلك بتعهداتها المالية والسياسية حيال المحكمة لا يغيرها تبدل ادارة وحزب، لكن قوة الدفع تتراجع لمصلحة ترك المسار العدلي ليشتغل من دون وقود إضافي قد يحتاجه. فيصبح سيره رتيباً، ويتحول دأب القضاة والقانونيين في أروقة محاكمهم الى عملية تقنية مجردة من مضامينها الاجتماعية والسياسية.

قد يخدم هذا المصير نظرية تجرد العدالة من الدوافع السياسية والانحيازات، واشتغالها على وقع القوانين... فقط القوانين. لكن هنا في لاهاي لا يعيش مجتمع المحاكم الدولية على وقع همومنا وهواجسنا. السياسة هنا لا تعني انحيازاً او ريبة في القرارات التي تُصدرها المحاكم. السياسة في وعي مجتمع العدالة الدولية هي تدبير شؤون الدول، وهي الصالح العام. وعندما تفقد قضية ما حماسة السياسة لها، تفقد عامل دفع تحتاجه في سيرها وعملها. هذا الأمر، وان لم يكن شرط اشتغال المحاكم الدولية، لكنه شرط سرعتها، وصحيح ان محكمة دولية واحدة لم يوقفها تغير في الظروف السياسية التي أنتجتها، لكن الظروف السياسية نجحت في تأخير وتبطيء الكثير من أعمال المحاكم.

المحكمة الخاصة بلبنان محكومة بهذه المعادلة، وهي وان تكون قد نجت من تبدل الظروف التي انتجتها، وما زالت متمتعة برعاية دولية ملحوظة، لكنها تنتظر من دون شك محطات تبدل أخرى. والسباق بين الوتيرتين السياسية والقضائية محكوم بسرعة السياسة وبطىء المسار القضائي. والأطراف اللبنانية المعنية بمسار المحكمة يعمل بعضها على تسريع الايقاع السياسي ليسبق الايقاع القضائي، فيما بعضها الآخر عاجز عن تسريع الايقاع القضائي.

الارجح ان هذا هو جوهر المشهد السياسي اللبناني، الذي تكثفت صوره في الاسابيع القليلة الفائتة. هذا هو معنى ما جرى من استقالات للوزراء ومن تكليف لرئيس جديد للحكومة. وهذا ما يجب احتسابه خلال التفكير بمستقبل الحكومة الجديدة، اذ ان مهمتها وفق هذا المنطق خوض سباق مع استمرار الرغبة الدولية في عمل المحكمة. فهل سيتمكن الرئيس نجيب ميقاتي خوض السباق؟

حازم الأمين- "ناو ليبانون"

الجمعة، 4 فبراير 2011

طريق المستقبل يمر من مصر


 

يشق شباب مصر اليوم طريق المستقبل العربي. ويقاتل النظام دفاعاً عن الماضي والاستبداد والتحجر في كل منطقتنا. ليس أوضح من قسمة كهذه، على الأقل في اللحظة الحالية، قبل ظهور الحسابات الاستراتيجية وبعده. وقبل أخذ الحساسيات الإقليمية في الحسبان وبعده.
مصر، بطليعتها الشابة، قالت كلمتها. الحرية. وكل ما سيأتي تفاصيل. لا يجوز نكران أهمية التفاصيل هنا وتأثيرها في صوغ الحكم المقبل. فإن سقط الحكم بقوة الشارع أو بتدخل من الجيش، سنكون أمام واقع مختلف عن ذاك الذي سينشئه تخلي الرئيس حسني مبارك بإرادته، عن السلطة.
ونجاح الحوار في التقدم نحو ضمانات يلتزم الحكم فيها بالنقاط التي ذكرها مبارك في خطابيه (اللذين لم يحملا أي اقتراحات تنفيذية)، من دون حركات التفافية ومحاولات للتذاكي والقفز فوق الحقائق التي أفرزتها أحداث الأيام العشرة الماضية، سيوفر دليلاً على رغبة السلطة في حقن دماء المواطنين، وعلى حسن نيتها. العكس، بما يتضمن من حصر خيارات المعارضة بالإسقاط العنيف لمبارك وحكومته في الشارع أو بدبابات الجيش، سيعني أن الحكم الحالي دفع السلطة المقبلة إلى تبني خيارات جذرية، في الداخل والخارج، لن يكون سهلاً على الأنظمة العربية الأخرى قبولها.
تجذّر المطالب يوماً بعد يوم وتأخر النظام في تفهم عمق التحرك واتساعه، هما ما يجعل الغرب يحض مبارك على «بدء عملية التغيير وانتقال السلطة». بداهة أن أصحاب العداء الفطري للغرب لن يروا في ما تقوله إدارة باراك أوباما والحكومات البريطانية والفرنسية والألمانية (من بين آخرين كثر)، سوى تخلي السيد عن تابعه.
مرة جديدة، يخطئ أصحاب النظرة التبسيطية تلك. فالغرب يدرك تمام الإدراك أن مزيداً من الدماء في الشارع يعني المزيد من ارتفاع مطالب المعارضة والمزيد من التشدد في كيفية تحقيقها مطالبها ومحاسبة الأطراف التي تأخرت في تأييد الثورة. بهذا المعنى يمكن فهم المتحدث الأميركي الذي قال إن بلاده كانت تريد «تغييراً بالأمس».
سيكون أجدى النظر الى المستقبل والتفكير في أهمية الاستجابة للمطالب العادلة لشبان لم يعرفوا سوى المهانة والذل على أيدي «باشوات» النظام، بدلاً من التوسع في ذكر مثالب الحكم الذي أبدى برودة مَرَضية في تجاهل مآسي المصريين، منذ عقود.
وسيكون أجدى أيضاً، لبعض زملاء مبارك في الاستبداد وإن خالفوه في «الاعتدال»، الانتباه إلى الحقائق العارية التي حركت مصر وتونس قبلها والى المطالب البسيطة والعميقة، في آن، للشعبين المصري والتونسي، بالحرية واحترام إنسانية الإنسان وتداول السلطة سلماً. مسائل الصراع العربي- الإسرائيلي والعلاقات مع الغرب لم تحضر في خطاب المعارضة المصرية سوى من زاوية التنديد بتفريط مبارك بحقوق وكرامة مصر وليس من أي زاوية إيديولوجية. وهذه نقطة كبيرة الأهمية.
وفي استعارة لعبارة المسرحي الألماني بريخت، نقول انه «بما أن الأمور قد وصلت إلى هذا الحد، فإن الأمور لن تبقى عند هذا الحد». بكلمات أخرى، يسير الحكم في مصر، منذ 30 عاماً، وليس منذ 25 كانون الثاني (يناير) فحسب، من خطأ إلى خطأ. وعليه ألا يلوم سوى نفسه لما آلت إليه الحال.
الساعات المقبلة مهمة وحاسمة بالنسبة الى مصر أولاً، وبالنسبة ثانياً الى ملايين العرب الباحثين عن الحرية والكرامة ولقمة الخبز.

حسام عيتاني- "الحياة"

الاثنين، 31 يناير 2011

مطلوب خطوة كبيرة للمعارضة مقابل خطوات النظام الصغيرة


الظاهر أن النظام يحاول امساك التحرك بواسطة الجيش. وانه اعاد الشرطة الى الشوارع بما يشبه الاستجابة لاستغاثات المواطنين. وهناك محاولة لانهاك المعارضة باطالة مدى التحرك وتعريض الامن لمزيد من الاهتزاز. وهذه مجموعة عوامل لحمل الناس العاديين على الخوف على اولادهم وبيوتهم ووظائفهم.
وجاء رئيس البرلمان فتحي سرور ليجرب من جهته امتصاص الغضب بخصوص تزوير الانتخابات التشريعية في نوفمبر الماضي بالحديث عن الاهتمام بقرارات محكمة النقض في الطعون المقدمة. وزير الدفاع زار القوات امام التلفزيون ليبين ان الجيش لا يزال على الولاء لمبارك. ومدد النظام حظر التجول من الساعة 3 بعد الظهر. التلفزيون المصري والعربية يشددان على الجانب الاجرامي والنهب والاعتداءات حتى يخاف الناس. من الضروري ان ترد المعارضة بحركة دراماتيكية، طالما ان الحكم غير قادر على القيام بمثلها ويلجأ الى الخطوات الصغيرة والجزئية. التظاهرة المليونية فكرة ممتازة في هذا السياق

حسام

الأحد، 30 يناير 2011

غموض في أسباب إقصاء الحريري... رغم الحاجة إليه!

يغيب عن كثير من الباحثين في مستقبل الحكومة اللبنانية العتيدة التي كُلف نجيب ميقاتي بتشكيلها على نحو دراماتيكي، ان المهمة الفعلية لها ستكون تحديد كيفية تعاطيها مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وهذه المهمة ستُحدد وجهة التعاطي مع هذه الحكومة، على المستويين العربي والدولي.
ومن دون ان يشعر المرء بوطأة تبني تعريف تيار المستقبل وإعلامه للرئيس العتيد بوصفه «مرشح حزب الله» لرئاسة الحكومة، فإن هذا الوصف على ما فيه من حنق واضطراب، فيه أيضاً قدر كبير من الحقيقة. وبغض النظر عن مضمون التحريض الداخلي والطائفي الذي يستبطنه، فإن وضعاً ثقيلاً يمليه هذا الواقع سيواجه الرئيس العتيد، وستنجم عنه مفارقات كثيرة. ذاك ان ميقاتي، القادم الى السياسة من عالم المال والاعمال، والقادم الى الأخير من سياق تدرج عائلي مديني هادئ، ابن خبرة مختلفة عن خبرة «المواجهة» التي تمليها المهمة الرئيسة المناطة بحكومته. وهنا لا نتحدث عن المواجهة الداخلية التي قد يستعين الرجل فيها بالنفوذ الميداني للحلفاء (على ما في هذه الاستعانة من محاذير)، او بضغوط اقليمية تُهدّئ الخصوم المحليين، او حتى تزجرهم، انما نعني هنا المواجهة مع مجلس الأمن، ومع الولايات المتحدة تحديداً.
الاشارات التي أرسلتها واشنطن منذ تكليف ميقاتي وحتى اليوم، بدأت بتصريح لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون اعتبرت فيه ان ميقاتي مرشح حزب الله. وقد يبدو هذا الكلام من باب رد الفعل غير المحسوب، لكن تدرج الموقف الأميركي عاد واشتغل على نحو حدد للرئيس العتيد وجهة تعاطي واشنطن مع حكومته، وجوهره: «مدى التزام الحكومة اللبنانية بتعهداتها الدولية». والتعهدات الدولية لا تقصد واشنطن منها سوى قضية المحكمة الدولية، اذ ان المسألة الثانية في سلّم تعهدات لبنان الدولية، أي القرار 1701، ما زال الالتزام به حاجة لبنانية لا داعي للتذكير بضرورته.
فإذا أضفنا الحقيقة الأولى (دور حزب الله في تسمية ميقاتي) الى الحقيقة الثانية (وجهة تعاطي واشنطن مع الحكومة العتيدة)، حصلنا من دون شك على نتيجة واضحة تتمثل في صدام منتظر بين حكومة ميقاتي والادارة الأميركية. وقد يكون الكلام عن عقوبات محتملة يتعرض لها لبنان جراء عدم التزامه «تعهداته الدولية» من باب التهويل على ميقاتي، اذ ان لهذه العقوبات قنوات وشروطاً غير متوافرة حتى الآن، الا ان قدرة واشنطن على إقلاق شخص مثل ميقاتي كبيرة، وقد تبدأ بتحويله الى هدف لعقوبات أميركية خاصة، وتمر باستعمال نفوذها الاقليمي لمحاصرته، وصولاً الى وقف مساعداتها المباشرة.
الرئيس العتيد سيشكل حكومة بمساعدة حزب الله في وقت تحصل فيه مواجهة بين العالم بأسره وبين ايران حول ملفها النووي. هذه الحقيقة سترخي بثقلها أيضاً على وضع ميقاتي، فهو اختير وفق منطق آخر، وهو اذ يسعى الى تأمين شرعية أخرى لترؤسه حكومة يتمتع فيها حزب الله بنفوذ كبير، ستتولى المواجهة بين ايران ومحيطها تبديد مساعيه هذه، خصوصاً في ظل قدرته المحدودة على التحرك في معزل عن واقع ان حكومته انما هي خيار حلفاء ايران في لبنان. وقد يكون الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، وخلال ترؤسه حكومته التي أسقطها الحزب في الاسابيع الفائتة، ضحية لواقع من هذا النوع، اذ انه ترأس حكومة للحزب فيها نفوذ كبير، لكن العالم يعرف ان وصول الحريري الى السلطة كان بعد منازلات انتخابية وغير انتخابية مع حزب الله، ويعرف أيضاً ان حكومته كانت واقعاً قَبل فيه حزب الله، ولم تكن خياره الأمثل. أما اليوم فعلى ميقاتي ان يُثبت كل يوم قدرته على التخفف من نفوذ الحزب، وهو ما لا يبدو ممكناً حتى الآن.
على المستوى الداخلي صار واضحاً نوع الصعوبات التي ستواجه حكومة ميقاتي، وهو وإن أبدى ثقة بالنفس على مواجهتها، وهو ما فعله حتى الآن، فإن الأثمان على هذا الصعيد ستكون مرتبطة بمستقبل الرجل وليس بحاضره. وللوقوف في وجه مشاعر الطائفة في لبنان أثمان سبق ان دفعها سياسيون كثيرون. فالرئيس سليم الحص وعلى رغم موقعه الاخلاقي تقاعد سياسياً بفعل ذلك، والرئيس عمر كرامي لم ينجح في دورتين انتخابيتين في أعقاب فعلة مشابهة.
الأرجح ان ميقاتي أقل تعرضاً من سلفيه لاحتمالات من هذا النوع، والفرصة التي يملكها لتخفيف الخسائر تتمثل في مدى نجاحه بتأمين غطاء عربي لقبوله ترؤس الحكومة، في وقت لا تلعب عوامل كثيرة، ربما كان العامل الداخلي أقلها تأثيراً، في مصلحته.
لكن السؤال الذي لا اجابة عنه حتى الآن هو عن السبب الحقيقي لإبعاد الحريري. فإذا كان حزب الله ومن ورائه سورية، يشعر بأن المهام المطلوبة من الحكومة هي ما وُضع أمام ميقاتي، فإن الصعوبات الهائلة التي ستواجه الأخير كانت ستختزل الى أقل من النصف لو تولى الحريري تشكيل الحكومة. فداخلياً كان سيتم تفادي وجود انقسام حاد حول التنصل من الالتزام بالمحكمة الدولية، وإقليمياً لن تكون الحكومة خيار حزب الله دون غيره من القوى، ودولياً لن يشعر العالم بأن لبنان مصفاة علاقته مع ايران.
في منطقة كالتي نعيش بؤسها أسرار كثيرة، وربما كان مفيداً للبنانيين، وإن بعد سنوات، اكتشاف السبب الحقيقي وراء إقصاء سعد الحريري في مرحلة تبدو الحاجة اليه، لمن لا يعرفون الأسرار من أمثالنا، ملحّة.

حازم الأمين- "الحياة"

السبت، 29 يناير 2011

الأمن هو اللا- أمن




يوم سقط نظام زين العابدين بن علي، ظهر أن الرعاع الذين اندفعوا في اعمال السرقات والسلب لم يكونوا غير مجموعات من أجهزة النظام الأمنية التي تخصصت في التحرش بالمعارضين. الأمر ذاته، لكن على نطاق أعرض، يحصل في مصر هذه الأيام. فالقسم الأكبر من اللصوص والنهابين يمتون بصلات إلى مباحث أمن الدولة والحزب الحاكم، على ما يمكن استنتاجه من التقارير الصحافية.
لا سر في هذه الممارسة. إذ ان "الأمن" في مفهوم الأنظمة السلطوية، في تونس ومصر وغيرهما، هو ضبط حركة المواطنين واحصاء اقوالهم وانفاسهم ومنعهم من كل ما يدخل في باب التعبير الحرّ عن الاختلاف والتمرد، وصولا إلى فرض انماط معينة من اللباس وقصات الشعر. فلا يهتم "الأمن" بالسلامة العامة ومكافحة الجريمة سوى باعتبارهما من ضرورات استبباب الحال لصاحب السلطان وتقليص تذمر الرعية.

عند انكسار حاجز الخوف عند المواطنين، تكشف أجهزة السلطة عن وجهها الحقيقي. فترمي جانبا غلالة القانون والنظام اللذين كانت تتذرع بهما لتبرير ممارساتها وتباشر أداء مهماتها من دون قناع. فإذا بها قوى للترهيب والترويع والاعتداء على المجتمع، في يد النظام السياسي الذي لا يتورع في ساعة غضبه وضعفه من رمي الناس بقفاز أجهزته المنفلتة من كل ضابط ورادع.
هذا ما تقوله عصابات الرعاع في القاهرة اليوم وهذا ما اعلنته مجموعات الأوباش في شوارع تونس قبل ايام.  

حسام 

الجمعة، 28 يناير 2011

فات أوان الإصلاح

فات السلطات المصرية قطار الإصلاح. كما فات حكومة زين العابدين بن علي قبلها. ولم يعد في وسع الرئيس حسني مبارك سوى اللجوء إلى القوة والقمع العاريين للحفاظ على سلطته. وإذا لجأ إلى ذلك صار كمن يدفع نفسه الى حافة الهاوية.
لم تعد الإصلاحات، مهما بلغت من العمق والاتساع، تكفي. المسار الذي سلكه الحكم في الأعوام الثلاثين الماضية، يمكن تلخيصه بترك الأمور على حالها في مجالات السياسات الخارجية والداخلية والاقتصادية. اضافة الى رفض التعامل مع المسائل الحساسة كالصراع العربي – الإسرائيلي وتوزيع الثروة الوطنية، وجعل الحزب الحاكم تكتلاً للمستفيدين من امتيازات الحكم، والامعان في تعميم الطابع الاستهلاكي على الاقتصاد والموقف من أسلمة المجتمع، وكل ما حملته العوامل هذه إلى مستويات القيم والثقافة والسلوك العام.
أسفر النهج هذا عن خسائر جسيمة في النواحي كافة. فتقلص موقع مصر في العالم وبين الدول العربية بعدما تبين أن دور الوسيط الذي تريد القاهرة الاضطلاع به بين اسرائيل والعرب، يتطلب امكانات وكفاءات لا تحوزها السلطة المصرية. وبات الاقتصاد المصري مكشوفاً أمام التبدلات الخارجية القاسية بسبب الارتباط بالأسواق المالية من دون وجود قوة إنتاجية فعلية. وتفاقم الاستقطاب الاجتماعي بالتزامن مع ضرب أدوات التعبير النقابي والحزبي والإعلامي. وصار في وسع دويلات لم يكن يحسب أحد حساباً لها قبل أعوام قليلة، تحدي الدور المصري في الكثير من الساحات التي كانت حكراً عليه.
ومنذ أشهر، يبدو التوتر آخذاً في التصاعد في مصر. وجرت الانتخابات التشريعية في تشرين الثاني (نوفمبر) في ظل تعنت الحزب الحاكم والسلطات السياسية والامنية بتقليص مساحة التعدد السياسي في البرلمان، ثم وقعت جريمة تفجير الكنيسة في الاسكندرية وما أثارته من أسئلة عن معنى الوحدة الوطنية واتحاد «عنصري الامة». وقبل الحدثين وبعدهما، جرت جملة من الأحداث، كمقتل الشاب خالد سعيد وغيرها، بدا النظام غير قادر على اتخاذ أي اجراءات تسحب فتيل التذمر والغليان من شارع لا تنقصه عناصر الاضطراب والتوتر.
ما قالته أحداث الأيام الثلاثة الماضية، هو أن مستقبل الحكم قد خرج من أسرة الرئيس الحالي إلى من يمكنه إظهار قدرة على ضبط الشارع أو ترهيبه. المرشحون لأداء الدور هذا، قلة، هم قادة الجيش. والحكمة التي يتعين استخلاصها من أحداث تونس قبل أسابيع، ومن ثورات أوروبا الشرقية قبل عقدين، ومن الثورة الايرانية أواخر السبعينات، تشير إلى أن الأجهزة الامنية تنجح في اقامة وصون جدار الخوف عند المواطنين. أما عن انهيار الجدار النفسي، سواء في طهران أو في برلين أو في سيدي بوزيد، فإن الشرطة أضعف كثيراً من أن تعيد بناءه. الجيش هو المرشح الوحيد للإمساك بالوضع، في وقت تكون فيه أجهزة الامن تبحث عن مخارج لأفرادها.
أما على المدى القصير، فيمكن الركون إلى استنتاجين أولهما أن الوضع المصري لن يعود إلى هدوئه المفرط السابق. وثانيهما أن على مبارك البحث جدياً في السبيل الأنسب لخروج هادئ من الحكم قبل انفلات الأمور.
كان المصريون مستعدين، حتى أعوام قليلة خلت، لقبول بعض من إصلاحات اقتصادية ترفع مستوى معيشتهم مقابل التنازل عن كثير من حقوقهم السياسية. وخطأ السلطة القاتل يكمن في اعتقادها إمكان تجاوز حصتها في المقايضة هذه والمضي في حرمان المواطن من حرياته وخبزه، والذهاب، فوق هذا كله، الى السعي لتأبيد السياسة تلك عبر التوريث.

حسام عيتاني- جريدة "الحياة"

الأربعاء، 26 يناير 2011

الامانة العامة

لم أخفِ يوماً ضيقي بحزب الله. باشرت ضيقي بالحزب مبكراً جداً، اذ أنني نشأت على ذلك بفعل أسباب كثيرة، ربما أعرضها ذات يوم. لكنني اليوم لست بصدد التعرض لهذه الضائقة، انما بصدد عرض ضائقة موازية، منبثقة عنها، لكنها غير منسجمة مع صورها. ضائقتي هذه تتمثل في حقيقة انني أتشارك مشاعري حيال الحزب وحيال دوره مع كثر ممن يبعثون في داخلي مشاعر لا تقل سلبية عن تلك التي يبعثها الحزب في وجداني، وان كانت من غير مادتها.
ومن دون مقدمات كثيرة، وبكل صراحة ومن دون مواربة، لا أدري لماذا يبعث في كل اجتماع للامانة العامة لـ"14 آذار" تعرضه محطات التلفزة شعوراً يشبه الغثيان. مع اعتذاري من أصدقاء كثراً قد تظهر صورهم في هذا الاجتماع.
نعم هذا ما يصيبني وبكل صراحة. ثمة وجوه لا أعرف أصحابها، انما أتخيلهم، ووجوه أخرى أعرف أصحابها جيداً وأعرف سبب بعثها الغثيان في داخلي. وفي كل مرة يُقدم فيها حزب الله على فعلة وعلى خطوة يترجم فيها "فعاليته"، تجتمع الأمانة العامة هذه وتصدر بياناً يقرأه منسقها، وتتولى محطات التلفزة نقله عبر مقدمة تعرض خلالها صور الاجتماع، فيظهر فيها من بين المجتمعين رجل في العقد السادس من عمره ،شعره طويل، لا أعرفه، وأتساءل كلما شاهدته: من يكون هذا الرجل؟
نعم لي أصدقاء في هذه الأمانة العامة، من بينهم من أصابت "الأمانة" ذكاءه، وأفقدته حصافة.
هل لواحدنا ان يخجل من عدم انسجامه مع نفسه؟ انها واحدة من لحظات انعدام التوازن الداخلي، لكنها الحقيقة التي أخفيها عن كثيرين ممن يأملون مني ان أحب "الأمانة العامة" هذه. ففي أحد الأيام وبينما كنت عائداً من مقهى الـ"تشيز" في الأشرفية الى منزلي، مشياً، هناك حيث مقر "الأمانة العامة"، واذ بشاب من "اليسار الديموقراطي" يقترب بسيارته مني ويسألني "شو لوين على الأماني". هذا الشاب اعتقد أنني متوجه الى مكتب "الأمانة العامة". شكرته على عرضه على نقلي بسيارته وتابعت سيري مشياً الى منزلي!
هذه الواقعة العادية ولدت صوراً كثيرة في مخيلتي. "شو لوين على الأماني". تذكرت البداهة التي كنا نسمي فيها الأمكنة عندما كنا في مثل عمره. كان للحزب الذي أنتميت اليه في تلك الفترة مركزين في المدينة، الأول كان مركز "المحافظة" والثاني "المنطقية". الأول يدار منه نشاط الحزب في محافظة الجنوب والثاني يدار منه نشاطه في مدينة صيدا. وكنا نسمي الأول "المحافظة" ونسمي الثاني "المنطقية".
لا أدري لماذا أشفقت لحال الشاب، بعد ان استعدت ما لهجناه في سنوات كنا خلالها في مثل عمره. "شو لوين على الأماني"، قالها على نحو مختلف عما كنا نقولها نحن "شو لوين على المنطقية". ورحت خلال اجتيازي المسافة بين مقهى الـ"تشيز" ومنزلي، أجرب صوتي ناطقاًعبارتي "الأماني" و"المنطقية" لأقارن بين اللفظتين. وخرجت بنتيجة أشفقت فيها على حال الشاب، علماً ان المشاعر التي تصيبني عندما استعيد صوراً من فتوتي وشبابي في الحزب كثيرة ومتناقضة لكن الشفقة ليست من بينها.
ماذا يمكن ان تقدم "الأمانة" لشاب في مثل عمر صاحبنا. أحزابنا قدمت ما هو أبشع، لكنه لم يكن عديم الجاذبية. قدمت سلاحاً ونفوذاً وقادة عسكريين، وقتالاً وأعداء وتمرداً على الأهل، وكلاماً قليلاً وأفعالاً كثيرة، ونساء ورجالاً ووجوهاً ولحى طويلة. كل ذلك لا أتخيله موجوداً في "الأمانة"، وهو ما دفعني الى الاشفاق على حال الشاب المنتمي الى اليسار الديموقراطي والمتوجه الى مركز امانتها العامة.

على أي نحو يمكن تدبير "الاحباط السني"


حازم

لمزيد من الانسجام مع النفس، على تيار المستقبل وإعلامه ومفوهيه ان يستبدل العبارة التي يحرص على ان تسبق تعريفه رئيس الحكومة الجديد نجيب ميقاتي، وهي "مرشح ولاية الفقيه لرئآسة الحكومة اللبنانية" بعبارة أخرى، وهي "المرشح الذي نجح الولي الفقيه بايصاله الى رئآسة الحكومة اللبنانية". وليس ذلك من باب تبني عبارة "المستقبل" انما على سبيل البداهة والدقة. كما ان الاستبدال هذا يطرح على "المستقبل" مهمة ضرورية تعوزه في القادم من الايام، وتتمثل في مراجعة ما حصل بصفته فشلاً في الصمود في وجه "ولاية الفقيه"، تلك المهمة التي طرحها على نفسه. فالقول بان ميقاتي هو "المرشح الذي نجح الولي الفقيه بايصاله الى رئآسة الحكومة في لبنان" تعني ان ثمة من فشل في منع ذلك.
المكابرة لن تفيد، نعم هناك فشل حصل، وهناك من يجب ان يدفع الثمن، والا سيتكرر الفشل.
الأسابيع التي سبقت هذا الفشل حملت الكثير من الدلالات على هذا الصعيد، ولم تكن نقلة وليد جنبلاط الدراماتيكية وحدها من تواطأ على انتاج هذا الفشل. فرئيس الجمهورية ميشال سليمان لم يكن أقل انخراطاً في عملية اقصاء الحريري، وخطوة تأجيله الاستشارات عندما كانت المؤشرات في مصلحة الأخير عينة صغيرة على هذا الدور. الجيش اللبناني أيضاً أدى بعضاً من المهمة عندما وقف مكتوف الأيدي في ذلك الصباح الذي نزل فيه أصحاب البدلات السود الى الشوارع مهددين، وهو الأمر الذي دفع جنبلاط الى النتقال عنوة الى تسمية ميقاتي.
بهذا المعنى يمكن ان يسمى ميقاتي مرشح "ولاية الفقيه"، لكن في لبنان لا قيمة لهذه التسمية، اذ ان واقعة القمصان السود سريعاً ما يمكن هضمها في سياق بحث الطوائف عن ضلالاتها على حساب أي معنى، ويمكن لـ"المستقبل" ان يجري صفقة صغيرة تطيح بالدلالات التي حملتها تلك الواقعة.
من الواضح سلاح حزب الله هو حجر زاوية الحياة السياسية في لبنان. لا قيمة لشيء في ظله. لا انتخابات نيابية، ولا حسابات طائفية، ولا مؤسسات رسمية. وفي ظل هذه الحقيقة يبدو ان ما شُهر في وجه الحزب يُعزز قيمة هذا السلاح. الشيء الوحيد الذي شُهر في وجه سلاح حزب الله حتى الآن هو الطائفة السنية. وهذا الأمر يُفضي الى حقيقتين، الأولى تعاظم الحاجة الشيعية لهذا السلاح، ثم انبثاق حاجة الى سلاح موازٍ، اذا لم يكن "المستقبل" في صدد تأمينه، فان المتبرعين بذلك بدأوا بحثهم.
ما جرى في الشارع يوم الثلثاء المنصرم، يوم تسمية ميقاتي رئيساً للحكومة، يؤشر الى ذلك. المشهد أوحى ان "المستقبل" بدأ يتداعى. فهو عجز عن الانخراط رسمياً في مشهد الشارع، لكنه عجز أيضاً عن التنصل مما جرى. هذا على مستوى الممارسة، أما على مستوى الخطاب، فقد كان الارتباك واضحاً بين التيار وبين وجوهه. فبينما كان سعد الحريري يوجه النداء الى الالتزام بالهدوء كان مصطفى علوش صائلاً في ساحة النور في طرابلس، واذا كان هذا مجرد توزيع للأدوار، فقد بدا ركيكاً ولا وظيفة له.
تحول "المستقبل" من ممثل لظلامة السنة معبراً عنها بوجوه النسوة والكهول، وبشرائح مدينية متوسطة، الى ممثلاً لغضبطهم وثأرهم. وهو أي "المستقبل" لن يتمكن من الاستمرار بهذه المهمة لأسباب كثيرة، أوجهها طبيعة زعامته، وأقلها وجاهة ركاكة بنيته.
لكن من سيرث الفراغ الذي سيخلفه ذلك؟
نجيب ميقاتي مثلاً؟ يبدو لي ان الأخير ربما يرث جماعة "الآنسات"، تللك المتنسكة برداء تدين مديني لا يمكن صرفه في ضائقة السنة اللبنانيين، مع ما يحيط بهذه الجماعة من قيم السكون المديني، والميل الى التدثر والانكفاء. أما متن الضائقة فلا حظ كبيراً لميقاتي لوراثتها. فـ"المستقبل" ربما ينجح بمهمة واحدة في القادم من الأيام، تتمثل في تثبيت ادعائه ان ميقاتي "رئيس حكومة ولاية الفقيه" في أذهان السنة اللبنانيين، وهو أمر لن يُساعد ميقاتي في سعيه للوراثة.
الورثة يجب ان تتوافر فيهم شروط أخرى، ولعلها المرة الأولى التي يشعر فيها المرء بان ثمة قادم جديد الى البيئة السنية اللبنانية، وذلك لاسباب كثيرة:
1- الفراغ الذي بدأ يُخلفه تصدع "المستقبل".
2- الاحباط الذي خلفته الخسارة في المواجهة مع حزب الله.
3- تماهي الضحية مع جلادها لجهة قوته و"فعاليته".
4- الشعور باليتم الاقليمي وبابتعاد "الامة" عن وليدها.
توافر هذه الشروط يدفع أصحاب طموحات الاستثمار الى مباشرة سعيهم. فلنتذكر ان البيئة السنية العراقية كان البعث معششاً فيها، وما ان تعرض موقعها للاهتزاز حتى استبدلته بخيار يليق بمواجهة الاقصاء.