الجمعة، 19 يونيو 2015

اكتفينا هواء رديئا!






عندما سيتوفى ادونيس -بعد عمر طويل- ويقال ان كتاباته واراءه السياسية والتاريخية مجرد سخافات لا اساس لها، سيظهر من يرد ان الرجل عَلَم من اعلام الثقافة العربية ولا يجوز تناوله بهذا الاسلوب. اذا، فلنقل كلمتين في حق هذا العلم قبل ان ينطوي ويتحول ايقونة مثل غيره ممن باتوا خارج التناول الصريح.

يكرر أدونيس في مقابلته الطويلة اليوم ذات الطروحات التي دأب عليها منذ وضعه مقدمة كتابه "الثابت والمتحول". لا شيء جديدا في المقابلة ولا في الاراء التي لا يمل من تكرارها. ولا قيمة معرفية لها في تشخيص الواقع العربي بعد اربعة اعوام ونيف من الزلازل والاعاصير.

 بالاضافة الى ذلك، كل ما قاله ان "اصل المشكلة" و"قراءة النصوص" والتأسيس العنفي للاسلام، لا يقنع أي مطلع على حد ادنى من التاريخ او الفكر العربيين- الاسلاميين. كلام يفتقر الى أي معرفة تاريخية –نقدية ويصح وصفه بالكلام الايديولوجي غير الموضوعي، لا في مجال تاريخ الاسلام ولا في مجال تطور فكره. احتاجاجته على الثورات و"تفاصيلها" يفضح المساحة الشاسعة التي تفصله عن الناس وشكواهم ومعاناتهم ومآسيهم.

يقول ادونيس ان مجتمع مكة مجتمع تجار والنبي والصحابة كانوا كذلك، أي ان ما يحركهم هو المال وسلطة وبالتالي تأسس الاسلام على العنف. في الواقع، لا اكثر جهلا من هذا الكلام. مجتمع التجار يكون على العكس تماما، مجتمع مستويات وصفقات وعلاقات عمل. اذ ان العنف "مضر بالاعمال" كما تقول الحكمة الرائجة...فكيف جرى الربط بين العنف والتجارة في مرحلة لم تكن تكونت فيها أي آلية رأسمالية سياسية؟ جلي تماما ان الرجل لا يستطيع ان يفرق هنا بين البيئة الضيقة المحيطة بالنبي المدنية –التجارية وبين البيئة القبلية الاوسع القائمة على علاقات الدم والنسب في شبه الجزيرة وطبيعة العلاقة المركبة بين البيئتين و"الثورة" التي قامت بها الاولى على الثانية....الخ

لكن الأهم من ذلك كله أن الرجل مفروض علينا كمثقف كبير ومرشح دائم لجائزة نوبل للاداب. لكن في كل مرة تصدف أن نقرأ شيئا له نصطدم بالضحالة ذاتها وبالشح ذاته في المعرفة والقدرة على الاستنتاج وربط الظواهر وتحليلها وتركيبها او تفكيكها.

سطحية مملة. وادعاء فارغ.  والأنكى ان الرجل، عندما لا يتبرع بتحليل الثورات العربية معتمدا على موقفه المعادي جذريا للشعوب العربية والمنحاز الى رؤية ثقافوية تافهة (للأسف ليس من عبارة ادق بعد انهار الدماء التي سالت)، يجد من يسأله رأيه في أمور لا قبل له بها او انه ادلى بدلوه في شأنها منذ عقود: العقل وتغيير المجتمع بتغيير ثقافته، والمشروع التغييري الشامل، غياب التظاهرات عن الثورات العربية. وأخيرا جاء بنظرية المرتزقة والتدخل الخارجي.

ولا نعرف متى سيقتنع السيد الشاعر ان تغيير المجتمعات لا يأتي بكتالوغات وكتيبات للتعليمات مثل التي نطلبها من بائع المفروشات والادوات الكهربائية. متى سيفهم ان الملايين من المتظاهرين العرب لم ينزلوا الى الشوارع لرغبتهم في التخريب بل تحديدا بسبب فقدان الامل بالتغيير الذي يوصي به هو ومن يشبهه من مسوقي الهواء ومسوفيه؟ متى يدرك ان ما جرى لا يمكن اعادته الى الوراء وان التجربتين التونسية والمصرية اللتين يشيد بهما لا تقلان فشلا عن تجارب ليبيا واليمن وسوريا وتنطويان على بذور الموت ذاتها؟

ركام الكلام الذي يقوله ادونيس منذ اعوام عديدة موجود ملخصه وفحواه في مقدمة "الثابت والمتحول". رؤية مسطحة الى التراث لا تلبث ان تبرز انحيازاتها الايديولوجية عند اول منعطف. وشخصيا لا تهمني الجهة التي ينحاز اليها الرجل ولا اسمها وهويتها وعقيدتها، ما يعنيني هو الشعور الدائم بالتعرض الى الكذب والخداع عند كل قراءة له.

لقد آن الاوان لرفض الاستغباء وتسميته باسمه حتى لو جاء من اشخاص مكرسين كمثقفين وهم ليسوا سوى اوهام مجسدة بأشخاص ووقت ضائع في الثقافة العربية. وما يدعو الى الملل ان كل فترة تشهد ظهور من يستغفل الناس ويستغبيهم ببيعهم هواء ساخنا لا يُصرف حتى في أردأ دكاكين الكلام الفارغ.

(خربشات)  

الأربعاء، 30 يوليو 2014

"داعش" والإسلام التاريخي


عندما يحيل اسلاميون وغير اسلاميين ما تقوم به داعش الى التجربة التاريخية الاسلامية ويمنحونها وغيرها من التنظيمات الجهادية فضيلة الاطلاع الافضل على القراءة التاريخية والتقيد بأحكام الاسلام التاريخي والسير على خطى السلف الصالح، يكون رافضو النهج التكفيري المغالي قد اغلقوا على انفسهم الفخ وباتوا مضطرين الى اللعب في الملعب الداعشي.

وأزعم ان الامر مقلوب. فالتجربة التاريخية ذاتها مشكوك فيها. والاحاديث التي تقيم التنظيمات الاسلامية قراءتها للتاريخ الاسلامي عليها موضع خلاف كبير حتى بين الفقهاء المسلمين. بل ثمة تيارات ترفض الاحاديث النبوية برمتها. وانتماء التنظيمات الجهادية عموما الى الفكر السلفي بصيغته الحنبلية، ينبغي ان يلفت الانتباه مباشرة الى موقف الفقه الحنبلي من الأحاديث.

وقد ذُكر ان الامام ابن حنبل كان يلم "بألف ألف حديث". مليون حديث نبوي كان ابن حنبل قد اطلع عليها وحفظها واقرها كلها. غني عن البيان أن القسم الاكبر من الاحاديث المذكورة موضوع في مراحل متأخرة من التاريخ الاسلامي خصوصا في العصر العباسي حيث استخدمت في السجال السياسي او الديني وحتى القبلي العشائري. وظهر من يضعها لاسباب مختلفة، من ابراز فضل بعض السور وأهمية تلاوتها الى الترويج لسلع وأغذية معينة. في الفقه الحنبلي ثمة تسامح مع هذه الاحاديث الموضوعة وأحاديث الاحاد والضعيفة والمتروكة. وعلى هذه الأسس يقيم الجهاديون "تجربتهم" التي يفترض بنا ان نقر انها اقرب الى الاسلام الأول. فهم يستفيدون من التلاعب بهذه الاحاديث وابراز بعضها والتكتم على الاخر بما يلائم مصالحهم الدنيوية والسياسية الآنية.

من جهة ثانية، تنطوي الاحاديث النبوية على كمية كبيرة من المشكلات. سأختصر الكلام عنها بالقول ان القسم الأكبر منها، حتى الذي يتفق المسلمون عليه باعتباره يشرح كيفية الصلاة واداء مناسك الحج والعبادات والزكاة وعادات الطهارة الخ... موضع شك في اصالته. الفرضية الاقرب الى السياق التاريخي هي ان وعيا جمعيا صاغ هذه الطقوس ومنحها الشرعية عبر نسبتها الى النبي محمد كأحاديث صحيحة ومتفق عليها. لقد سلكت النصوص الدينية الاسلامية ذات المسار الدائري المتسع الذي سبقتها اليه كل النصوص الدينية في العالم: نص الهي، يحتاج الى تفسير وتأويل، ترفده تفسيرات واحاديث ثم تفسيرات للتفسيرات وتأويلات للتأويلات في دائرة لا تتوقف عن الاتساع.

دعونا نذكر على المثال ان خلافا وقع في خصوص عدد الصلوات اليومية وهل هي ثلاث او خمس بسبب غموض النص القرآني وتفاصيلها ثم جرى الاتفاق على انها خمس. طيب. لكن كيف تؤدى؟ هنا تدخل الاحاديث مجددا ... كيفية وضع السنّة تحتاج بدورها الى بحث طويل.

الاحاديث والسنة وضعت على مدى مئات الاعوام. وليس هناك من يمتلك منهجا دقيقا للحكم على الاحاديث ويبين صحتها من عدمها. "علم الرجال" الذي وضع كطريقة لابعاد "الدجاجلة" (كما كان يسمي الامام مالك بعض واضعي كتب المغازي) عن المحدثين الثقاة لا يكفي للجز بصحة او زيف الاحاديث. ولا ان ينتقي من هؤلاء من وضع الاحاديث بحسن نية عن ذاك الذي اراد الترويج لفكرة او سلطة او حتى تجارة.

والآن تأتي القاعدة وداعش للقول انهما يطبقان "التجربة التاريخية" بحذافيرها. وتجدان من "العلمانيين" من يؤيدهما في ذلك. فيتحتم التساؤل عن اي تجربة تاريخية نتحدث؟ ربما الادق الحديث عن تجربة تاريخية متخيلة. بكلمات ثانية، انهم يقيمون تجربتهم التي يعتبرها البعض "الاقرب الى الحقيقة التاريخية" على احاديث وانباء وضعت بعد مئات الاعوام من الاحداث التي يقولون انها تنتسب اليها.

هذه ملاحظات سريعة في شأن الحديث. ربما نعود الى الشأن القرآني.

حسام عيتاني


الجمعة، 20 يونيو 2014

التكفيريون الذين صنعناهم

مجلة "بدايات"

حسام عيتاني


باتت دارجة نسبة جماعات مسلحة وسياسية الى "الفكر التكفيري" وسوق استنتاجات وخلاصات تقوم على الهوية الفكرية الحاملة للإقصاء الكامل للآخر وصولا الى الغائه الجسدي. ودخل المصطلح حيز التداول اليومي بين مُتّهِم وبين مُتَّهَم يسعى كل منهما الى تثبيت وصمة التكفير السوداء على خصمه.

يفترض من يلجأ الى الاستخدام الكثيف للمصطلح أنه يوجه ضربة قاضية الى الطرف الآخر الموسوم بضيقه بالاعتراف بالاختلاف والتنوع ضمن البيئة الاجتماعية الواحدة. وانه، هو الرافض للتكفير، رحب الصدر بكل تعدد في الهويات الدينية والثقافية.

لا مفر من التأكيد على ما يكاد يلامس البداهة: كل فكر ديني، بغض النظر عن اسم المذهب الذي يتبعه، يرتكز الى تكفير الآخر. مقولة "الفرقة الناجية" و"الجماعة المنصورة"، اكثر اتساعا وعمقا من ان ترتبط بمذهب واحد ناهيك عن دين من الاديان. والتكفير، في نهاية الحساب، يشكل الوجه الآخر للانتماء الى أي جماعة دينية او سياسية او "فوق-عرقية". ذلك أن الايمان نادر في عرف الجماعات القائمة على اللُحّمة الايديولوجية والدين أحد اشكالها، فيما الكفر وافر. يفضي البحث عن الطُهرانية والنقاء الديني والايديولوجي الى احتكار الايمان والتقوى والصواب السياسي والى جماعات مغلقة غالبا ما تتبنى ايديولوجيات ألفية (Millenarianism ) تنتشر على امتداد الطيفين الديني والسياسي. جماعات من أقصى اليمين الى أقصى اليسار لا تختلف كثيرا في منظوماتها القيمية وفي تأليهها لقادتها عن الطوائف الدينية. منظمة "مجاهدي خلق" الإيرانية التي بدأت كيسار اسلامي متأثر بأفكار علي شريعتي لتنتهي طائفة "تقدس" مسعود ومريم رجوي، قد تكون من الامثلة الحديثة على المنحى المذكور.  

وفي واقعنا، كثيرا ما تجري استعادة الحروب الطائفية واسقاطها من التاريخ على الحاضر وتحميلها دلالات ليست لها. فإلى جانب المثال الشهير في الحروب الصليبية الذي تراجعت استخداماته بسبب تبدل سمات الصراعات الراهنة، تحضر حروب الردة واحداث الفتنة الكبرى ومعركة كربلاء نماذج على حوادث الحاضر بل كتفسيرات تلقى القبول لأحداث جارية يقال ان جذروها تضرب في صراع يزيد بن معاوية والحسين بن علي. وهناك من يستسهل التذكير بالحروب والمجازر المتبادلة بين السنة والشيعة في العصر العباسي (خصوصا في حقبة الدولة البويهية) وتنكيل الخلفاء بالشيعة بل وتسليم بغداد الى المغول من قبل الوزير ابن العلقمي، كعلامات على عداء جذري لا علاج له بين الطائفتين السنية والشيعية.

ولا يصعب العثور على "تأصيل" للعداء هذا في أدبيات قديمة وجديدة لأئمة وعلماء وفقهاء يتوزعون على جانبي الانقسام. ابن تيمية وابن القيم الجوزية والبربهاري من جهة والكليني والمجلسي والجزائري من الجهة المقابلة. نواصب يقاتلون روافض منذ فجر التاريخ وسيظلون على الحال هذه الى يوم الدين. هذا ما يُطلب من مواطني القرن الحادي والعشرين ان يصدقوا.

غني عن البيان ان المقاربة هذه تتجاهل الطبيعة العاصفة بالصراعات التي كانت عليها حقبات مديدة من التاريخ العربي –الاسلامي والتي لم تقتصر بحال على الاحتراب السني – الشيعي، إذ يحضر بقوة، في تاريخ تهمله الايديولوجيا القومية العربية، سلسلة لا تنتهي من الحروب الاهلية القبلية عمت كل الحقبتين الاموية والعباسية، بين تحالفات قبلية عربية صميمة وشديدة "الأصالة". يصعب العثور على الانقسام السني – الشيعي في حروب القيسيين واليمنيين وفي مئات المناوشات والاشتباكات والحروب الصغيرة والكبيرة التي عمت المنطقة العربية وكانت سابقة على الفتح العربي في القرن السابع الميلادي. يضاف الى ذلك أن النصوص المستخدمة في تكفير الآخر والتي تعود الى مئات الاعوام، تطفو الى سطح الخطاب الطائفي ثم تختفي وفقا للتوتر ولضرورات التوظيف السياسي وليس بوصفها حقائق "جوهرانية" من الايمان.

عليه، يتشارك كثر في تبني التكفير أداة في التعامل مع التعدد. وعقلية القلعة المحاصرة "الماسادا" وابتكار المزيد من التقاليد المحفزة لحمية الجماعة والقائلة بعصمتها واستثنائية زعامتها واعتبار قتال الشركاء في الوطن، بغض النظر عن اسم طائفتهم، اولوية تعلو مواجهة الاخطار الخارجية، ضروب من التكفير لا تخفى على عين يقظة. خصوصية التكفير السني تنبع من مكان آخر. من حقيقة انتشاره بين الأكثرية الطائفية والدينية في المشرق التي طالما نظرت الى نفسها باعتبارها حاضنة الاعتدال والوسطية والأهم بصفتها جسم الامة الذي يحتمل بل يرعى باقي المكونات. بغض النظر عن صحة وتماسك هذا التصور امام المساءلة التاريخية.

مهما يكن من أمر، ارتفع خطاب العداء السني- الشيعي في العقد الأول من القرن الحالي لأسباب لا علاقة لها بالشقاق الفقهي والمذهبي. وكان من السهولة بمكان العثور على الغطاء الايديولوجي الديني لصراعات سياسية حديثة سال الكثير من الحبر في تشخصيها ووصفها، مثل النهوض الايراني ومشروعه الامبراطوري ومشكلة الاقليات في المشرق العربي منذ نهاية الحرب العالمية الاولى وتقسيم ارث السلطنة العثمانية واخفاق مشاريع العروبة البعثية والناصرية والانظمة التقدمية  والرجعية سواء بسواء والتخبط في كل التصورات التي قامت لمواجهة اسرائيل واستعادة الحقوق الفلسطينية وغير ذلك من الاسباب. بكلمات ثانية، افلاس مشروع الدولة الوطنية العربية.

على مسرح يعمّه كل هذا الخراب، يظهر الاسلام التكفيري ممثلا نشيطا مؤديا دوره بقدر كبير من الاقناع. والمجتمعات العربية التي تجتاحها عولمة لا تني تدفعها الى هوامش الفعل والحضور العالمي وما يرافقهما من تقدم اجتماعي واقتصادي وعلمي، من جهة والفشل المدوي في الداخل من الجهة المقابلة، لا تجد أمامها إلا العودة الى الانتماءات الأولية القائمة على الهوية الدينية والقبلية. وليس غريبا أن تكون المناطق المهئة أكثر من غيرها لاستقبال الاسلام التكفيري هي ذاتها التي تشعر بالتهميش السياسي والاجتماعي. البوادي العراقية والسورية وعلاقة عشائرها (المتقلبة، لا بد من هذه الملاحظة) مع تنظيم "دولة الاسلام في العراق والشام" ("داعش") مثال ساطع على هذا اللقاء.

لا يهم كثيرا هنا ما يحمله الاسلام التكفيري من "عدة معرفية" اذا جاز استخدام هذا التعبير او ايديولوجية. فهي تقوم على سلّم من شُعبتين: التركيز على الهوية الجمعية المهددة من الخارج (الشيعي- المسيحي- المؤيد للحكم القائم...) والاعتقاد ان حروب الهويات مستمرة الى ما لا نهاية له ما يفسح في المجال امام استغلال مناخات الذعر والتشبث بمصادر الامان الاجتماعي النسبي (الطائفة، العائلة، المنطقة). الشُعبة الثانية هي الاعتقاد بقدرة القوة العارية على حكم المجتمعات المسلمة. تستعيد التنظيمات التكفيرية هنا نهج الأنظمة العربية مع دفعه الى حده الأقصى. ويمكن العثور على الكثير من المتوازيات بين التكفير الاسلامي بمعناه الرائج اليوم وبين ممارسات سلطات الاستبداد العربية من منع كل تعبير سياسي او ثقافي او اجتماعي لا يتوافق مع المنظومة الرسمية للقيم "الصائبة".

تجوز هنا استعادة بعض رسائل قادة "الدولة الاسلامية في العراق والشام" كأبي عمر وأبي بكر البغدادي التي يبرز فيها ما يصطلح على تسميته "فقه الغلبة" القائم على حق جماعة المؤمنين في فرض سلطانهم بالقوة. وبديهي ان هذا النوع من التفسير للنص الديني لا يعكس غير جانب ضيق من معنى الدين ويحيل الى الهاجس الحقيقي لانصار هذا النوع من التدين وهو الوصول بكافة السبل والوسائل الى السلطة.

وفي بعض المراسلات والنقاشات التي جرت بين الاسلاميين في سوريا خصوصا في العام الماضي، اشتكى اسلاميون كثر من استحالة النقاش مع عناصر "داعش" المسارعين الى تكفير خصومهم والى رميهم بتهم الزندقة والخيانة والانتماء الى "الصحوات" وما شاكل. تفحص النقاشات هذه والمستوى الفقهي الراقي الذي حاول بعض الاسلاميين السوريين اقناع "داعش" بخطأ ممارساتها الاستفزازية للسكان واباحتها للاعتداء عليهم وعلى املاكهم، لا يُظهر فقط ضحالة العدة النظرية عند التكفيريين فقط بل أيضا تلبسهم حالة سلطوية لا تقيم وزنا كبيرا لأصول الفقه وخصوصا فقه المعاملات، وللخلفية الاخلاقية التي يُفترض أن تسود التعامل بين المسلمين.

لا يعني ذلك بحال ان تنظيمات الاسلام السياسي الاقل تطرفا لا تولي السلطة اهتماما مركزيا في نشاطها. على العكس. فالسلطة هي ما يهمها في المقام الاول على ما بينت تجارب "الاخوان المسلمين" في مصر و"حركة النهضة" في تونس. لكن الفارق يتركز في الانتماء الاجتماعي الذي يأتي الناشط الاسلامي السياسي منه. قسوة التهميش والحرمان وانسداد افاق الترقي والتعبير والتغيير، ترفد كلها صفوف اسلاميين اصدروا حكمهم باعدام كل من يرون فيه سببا لمعاناتهم الفردية والجماعية.

تفتح هذه المناخات أبوابا واسعة أمام انواع شتى من التوظيف والاستغلال من قبل أجهزة وقوى تخترق التنظيمات التكفيرية وتتحكم بها بسهولة. ذلك أن اسلوب التزكية المشيخي (تزكية شيخين للعضو الجديد) المعتمد في الانتساب الى الجماعات التكفيرية المسلحة يساهم في جعل ابواب الجماعات مشرعة امام كا من هب ودب. ويجزم ناشطون سوريون، على سبيل المثال، ان تنظيم "داعش" تحركه اجهزة الاستخبارات السورية والايرانية. أدلتهم على ذلك تمتد من عدم مشاركة "داعش" في أي معركة ضد النظام الذي لم يبادر الى قصف مقرات التنظيم، وصولا الى اختطاف وتصفية ناشطين مشهود لهم بالاخلاص للثورة السورية.

لكن الأهم من هذا، سؤال عن قدرة تلك الجماعات على التكيّف والعمل في مجتمعات يُعتبر التعدد الديني والعرقي والسياسي والاجتماعي من أسس قيامها. بالاحرى، كيف لجماعات تقوم على التكفير ان تمارس السياسة بما هي ادارة للاختلاف والتنوع وحوار دائم وصراع غير مسلح في غالب الأحيان مع القوى الحاضرة في المشهد العام. فانهيار حكومات الطاغوت والسلطان الباغي، العدو الأول المُعلن لجماعات التكفير، لا ينهي المجتمعات التي تنشط فيها الجماعات تلك ولا يغير صفاتها ومكوناتها.

التجارب الحديثة تقول بما لا يدع مجالا للشك أن فقه الغلبة والشوكة، لا يترك مساحة لتعايش سلمي او تنافس سياسي بحده الأدنى. فالسلطة في عُرف الجماعات تلك تعني التحكم بكل مفاصل الحياة في البيئة التي تسيطر عليها. وقد لا يبدو ذلك شديد الصعوبة على قادة الجماعات في مناطق ينشغل اهلها بالحفاظ على حياتهم وعائلاتهم ورزقهم، كالمناطق الصحراوية في العراق والشام حيث تبدو العشائر صاحبة الدور الاجتماعي الأول، لكن الأمر يتحول الى صدام رأسي ما ان تتمدد الجماعات تلك الى نواح مركبة ومتنوعة.

عليه، تبدو ثمة هوة شاسعة بين ادعاءات التكفيريين (السنّة) بالعمل على اقامة الحكم العادل وبين قدراتهم الفعلية على البرّ بوعودهم. وبين مواقفهم من انظمة الاستبداد، وبين التعايش مع المجتمعات التي تتخلص من نير الطغيان. وبغض النظر عن التوظيف والاستغلال الامنيين للتكفيريين، يجدر النظر اليها بصفتها مرحلة متقدمة من ازمات المجتمعات العربية والاسلامية ونتائج للرضّات والصدمات التي تعرضت لها تلك المجتمعات أكثر من اعتبارها أخطارا هبطت من كوكب آخر.

حسام عيتاني

 



   

الخميس، 19 يونيو 2014

ثقافة إعادة تأسيس الأزمة

حسام عيتاني

موقع "24"




ثمة تيار عريض بين المثقفين العرب يدعو، في مواجهة خطوب الحاضر وأزماته، إلى عقلانية عربية تتأسس على تحديث وإحياء التراث الفكري العربي – الإسلامي بأدواته هو أولاً، وبالاستعانة بالمدارس الغربية ثانياً.

تزعم التيار هذا الكاتب الراحل محمد عابد الجابري الذي قدم عبر عدد كبير من المؤلفات أشهرها سلسلة "نقد العقل العربي" التي احتوت تشخيصاً لما رأى فيه الكاتب أزمة العقل والثقافة العربيين واقتراحاته للخروج منها بهدف الانخراط في عالم اليوم. وكُتب الكثير في الرد على الجابري ونقاشه ونقد طروحاته. لكن من الممكن في هذا المجال القول إن فكرة إحياء الثقافة ومن ثم الحضارة العربية اعتماداً على أدوات التراث العربي –الإسلامي، لم تختف برحيل الكاتب المغربي.

ونسجاً على منوال الجابري هناك من يكرر دعوته إلى الارتكاز إلى عقلانية ابن رشد وتاريخية ابن خلدون والتجديد الديني عند كل من الشاطبي وابن حزم. بل إن هناك من يرى في المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث موئلاً صالحاً لينهل منه العرب المعاصرون توليفة ثقافية حضارية قادرة على سحبهم من الاستنقاع الذي يقيمون فيه بعد فشل النهضة العربية التي بدأت أواخر القرن التاسع عشر ووصولها، بجميع تجلياتها السياسية والاجتماعية، الى نهاياتها المأساوية منذ أكثر من أربعة عقود.

يتعين هنا تسجيل ملاحظتين منهجيتين. الأولى، أن الخلاصات والاستنتاجات العامة للفكر والفلسفة العربيين الإسلاميين قد درست بدقة واستوعبت في التيارات الفلسفية اللاحقة. هكذا فعلت المدرسة السكولائية في فرنسا والقديس توما الإكويني وآخرين ممن انكبوا على قراءة ونقد الفكر العربي- الإسلامي، يمكن قول الكثير عن تلك القراءات وذاك النقد لكن المهم أن الإنجازات الكبرى العربية –الإسلامية لم تذهب هباء كما يتصور البعض وأن في بناء الفلسفة المعاصرة الكثير من الأحجار العربية- الإسلامية. عليه، يبدو من غير المجدي العودة إلى القديم مما تم هضمه فعلاً في الثقافة المعاصرة.

الملاحظة الثانية تتعلق بالنظرة العربية، المشرقية خصوصاً، إلى الحضارة. فثمة اعتقاد يتشارك كثر فيه يقول إن الحضارة العربية - الإسلامية انتهت بسقوط بغداد على أيدي المغول، ولم تنتعش إلا مع الحملة الفرنسية على مصر. وبغض النظر عن الأسئلة التي يطرحها تصور يربط سقوط وقيام حضارة باحتلالين أجنبيين، ينبغي الانتباه إلى السمة شديدة الأنانية في هذا الكلام.

في واقع الامر، استمرت الحضارة الإسلامية (مع تراجع التأثير العربي فيها) في السلطنة العثمانية والإمبراطورية الفارسية الصفوية والإمبراطورية المغولية الهندية. وفي الوقت الذي يعتبر العرب فيه أن عصراً من الظلام خيم على بلادهم منذ بداية العصر المملوكي حتى القرن التاسع عشر، يصح القول إن تركيا وفارس والهند عاشت عصور ازدهار فكري وثقافي وعمراني في تلك الحقبة. فشخصيات مثل الفيلسوفين الإيرانيين المُلا صدرا الشيرازي ومير داماد ومجموعة المؤرخين الأتراك اللامعين والمعمار سنان وعدد من الفقهاء الهنود، لا يحبذ المثقفون العرب كثيرا إدراجها ضمن بناة الحضارة العربية – الاسلامية رغم ان كثر منهم أصروا على الكتابة باللغة العربية (الملا صدرا، على سبيل المثال). وغالبا ما يردّ المثقفون العرب على هذه النظرة بنسبتها الى مستشرقين لا يخفون-من جهتهم- مواقفهم السلبية من العرب المعاصرين وفي مقدمتهم برنارد لويس. الجدير ذكره أن الإمبراطوريات العثمانية والصفوية والمغولية بلغت في نهاية المطاف عصر انحطاطها لأسباب مختلفة وخضعت في النهاية إلى عملية اعادة هيكلة شاملة خلال وبعد مراحل من الاستعمار الغربي في الهند و"المرض" التركي المديد والإفلاس القاجاري.

يكشف ما سبق التناقض العميق في الرؤية العربية إلى "النهضة" و"اليقظة" وغيرهما من مسميات مشاريع الأحياء القومي المستندة إلى استعادة صماء بكماء عمياء لما مضى وانقضى. فمن ناحية التناسق المنطقي، إذا جاز القول، يصعب الاعتقاد بالانهيار الشامل للحضارة العربية –الإسلامية في المشرق العربي والتعويل في الوقت ذاته على مكونات لم تسهم في إنقاذ تلك الحضارة من مثل الفلسفة والتراث والثقافة. ويصعب بالقدر ذاته القول بإحياء حضاري يستند إلى ما تسبب بالفشل الأول، من دون تعريضه إلى نقد شامل لا يقف عند نصوصه المؤسسة بل يتجاوزها إلى مفاهيم أرستها تلك النصوص التي تعكس في الجوهر ممارسات اجتماعية وسياسية ما زال كثير منها صامد بعد مرور مئات الأعوام على تأسيسه.

ويبدو فارغا من كل معنى الكلام عن تغيير سياسي مستوحى من علم الكلام المعتزلي، على ما اقترح بعض الكتاب العرب الذين رأوا فيه أساساً عقلانياً قابلاً للتطوير. ويبدو كذلك عديم النفع اقتراح العودة إلى تراث ديني أو فقهي يقال إنه يعاني من الإهمال. المضمون الواقعي لدعوات كهذه وما يشبهها ويصب في خانتها لن يكون بأفضل حال مما نراه اليوم من نكوص إلى أقصى حالات العدمية والردة والظلامية. وذلك في وقت تبدو فيه الدعوات إلى الانخراط في عالم اليوم، بمخاطره وفرصه، بسلبياته وإيجابياته، محاصرة في بقاع لا تني تتقلص وتنكمش أمام زحف أدعياء إعادة الخلافة، وبالتالي إعادة الأزمة الحضارية العربية إلى نقطتها المرجعية الأولى.

حزب الله في العراق؟

حازم الامين

 موقع "Now"

 

سأل لبنانيون كثر في الأيام القليلة الفائتة عن احتمال أن يُرسل حزب الله مقاتلين إلى العراق، على غرار ما فعل في سورية! 

لسذاجة وضعف في الفطنة كان كاتب هذه السطور استبعد أن يُشارك الحزب في القتال في سورية. سورية بلد كبير ومترامٍ وتأثير الحزب يبقى محدوداً، ثم إن الخسائر ستكون كبيرة. الى أن أعلن الحزب رسمياً أنه يُقاتل هناك.

الأسباب السورية للتردد في الذهاب إلى القتال إلى جانب النظام هناك تبدو في الحالة العراقية مضاعفة. العراق بلد أكبر من سورية، ومشاكله أعقد، والقدرة على التأثير في الوقائع أدنى منها في سورية. وعلى رغم ذلك على المرء أن يتردد في الحسم في أن الحزب لن يذهب للقتال هناك. فما رشح من كلام السيد حسن نصرالله الأخير يؤشر إلى احتمال المشاركة. ويؤشر أيضاً إلى أن مسألة "حماية المقدسات" انتقلت لتحل مكان تحرير القدس.

القول بأن الحزب لعب أدواراً كبرى في الحرب السورية ينطوي على مبالغة. لعب أدواراً محددة، ودفع أثماناً كبرى على صعيد الخسائر البشرية، وأيضاً لجهة تهشم صورته على نحو غير مسبوق.

ثم إنه اليوم أسير المشاركة في القتال. فقد صار واضحاً أن الحزب في سورية مصلحة أميركية واسرائيلية أيضاً. واستمرار القتال يشكل بحسب استراتيجية أوباما فرصة لاستنزاف إيران وفروعها الإقليمية، وهو يعني أن النصر في سورية ممنوع على أي طرف.

كلفة الذهاب إلى العراق ستكون أكبر، على المستوى البشري على الأقل، لكن ربما تطلب الأمر "تضحيات"، على رغم أن المنطق ينفي ذلك. فالحزب في سورية قاتل في القصبات القريبة من الحدود مع لبنان، وفي حمص وفي منطقة السيدة زينب. ولنقاط القتال هذه صلة بهويته الطائفية والمذهبية، وبوظائفه المباشرة كجهاز إقليمي.

في العراق المهمة أوسع بكثير، وخط الانقسام المذهبي هناك أشبه بشفرة سيف.

اللبنانيون حين تساءلوا، كان دافعهم بالدرجة الأولى البحث في ارتداد مشاركة الحزب في العراق على لبنان. على المستوى الأمني، انتقام داعش لن يكون سهلاً في حال توفر حد أدنى من النصاب السياسي والأهلي. هذه معادلة فهمها الحزب. إقصاء السنة اللبنانيين يوفر بيئة لداعش. أما على المستوى السياسي، فقد شعر اللبنانيون في الآونة الأخيرة أن حزب الله أدار ظهره لقضاياهم وانشغل حتى العنق في الوحل السوري. مرر الحكومة ومرر زيارة البطريرك الراعي اسرائيل، وانكفأ إلى حد ما عن السجال الداخلي. وسيكون للمشاركة في العراق نتائج مشابهة.

بعض الخبثاء من خصوم الحزب يريدونه أن يذهب إلى مزيد من الحروب في الخارج، وهم تأملوا خيراً بكلام السيد حسن الأخير.

هؤلاء يا سيد حسن خصوم خبيثون. ثمة خصوم غير خبيثين يتمنون أن لا يذهب الحزب إلى العراق، ولو أنه لم يكن قد ذهب إلى سورية. لو أنه حزب لبناني. فقط لبناني. حزب طائفي لبناني يسعى وراء مصالح الجماعة التي يُمثلها، ولا يدفع للجماعات الأخرى، من حصة جماعته، أثمان مشاركاته في حروب خارج الحدود. 

وثمة وجه آخر لهذه المشاركات، تتمثل في أن آلاف العائدين من القتال اختبروا على تلك الجبهات البعيدة أنماطاً من التشيع كانت عقود العيش في لبنان قد امتصت بعض غلوائها. اليوم يبدو أن شيئاً عاد ليتسرب. علينا أن ننتظر ونراقب.

الاثنين، 9 يونيو 2014

يوم النشور

 

 6/6/2014


قُتل العشرات وأُصيب المئات برصاص ابتهاج أنصار بشار الأسد بعد إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية التي دعا اليها ونظمها وأدارها وربحها بمعية أجهزته الأمنية.
تقدير عدد الضحايا الذي تولته جهات غير حكومية راوح بين عشرة قتلى ومئتي جريح في أربع محافظات امكن فيها اجراء احصاء تقريبي، وما يزيد عن العشرين قتيلاً، سقطوا في ليلة رعب فتح فيها جنود الاسد والمسلحون الموالون له أبواب الجحيم على المواطنين على الطرقات وفي البيوت. وعلى سيرتهم سار أشباه لهم في لبنان فرحوا ايضاً بالفوز العظيم.
كانت ليلة تليق بخاتمة «العرس الديموقراطي» الذي شهدته سورية لإعادة تنصيب رئيس أثخن فيها قتلاً ودماراً. كانت الليلة عيّنة للسلوك الذي سيسلكه أتباع الأسد عند انتصارهم على أعدائهم - مواطنيهم.
بيد أن أيام الانتخابات في الداخل والخارج والاستعدادات التي سبقتها ورافقتها، كشفت للمرة الالف ربما كم ان هذا النظام عاجز عن التطور واستيعاب دروس الثورة عليه، وكم هو ملتصق بماضيه.
بهذا المعنى كانت الانتخابات كيوم النشور. خرج أموات النظام كلهم من القبور وأعلنوا الاستيلاء على ما تبقى من حياة في سورية. عاد حافظ الاسد أولاً وقبل الجميع. عادت اساليب الترهيب والتهديد لحمل الناس على الاقتراع للقائد. وعادت الصور العملاقة لاحتلال الساحات والشوارع.
ماذا تقول هذه المبالغة في الاحتفال والاستعراض وحشد الراقصين والراقصات في الشوارع غير الخواء والفراغ؟ ماذا وراء التوتر والنزق في تسيير المؤيدين غير محاولة اخفاء غياب الثقة بالذات والخوف الرهيب من الغد؟ ماذا تعني التظاهرة التي دبرها النظام وأنصاره لعشرات الآلاف من اللاجئين والعمال السوريين في لبنان غير الاصرار على متابعة كل ما قام ضده السوريون ودفعوا في سبيل التخلص منه اثماناً لا تطاق ولا تُحتمل؟
لا معنى للاصرار على استعراضات الولاء الاعمى والافراط في الاحتفال المسلح، غير قول واحد هو ان الحرب مستمرة بكل الوسائل على من يتحدى امساك آل الأسد ومواليهم بالسلطة. الحرب هي الخيار الوحيد المتاح لاستمرار النظام الذي ربط نفسه بمتابعة قتل مواطنيه وألصق خلاصه بالمضي بالحرب حتى النهاية.
لقد خرج رميم البعث من القبور ليعلن ان لا مستقبل الا للماضي وان لا حياة الا للموت في «سورية الأسد» وأن النصر الذي يزعم النظام تحقيقه على الثورة، لا يكون في حال حصوله غير نشر الهباء في المشرق العربي ونعي لكل محاولات التغيير والتقدم.
أراد النظام السوري «تجديد شرعيته عبر صناديق الاقتراع» وكان له ذلك. استعرض سطوته على ملايين السوريين الذين خذلتهم معارضتهم قبل ان يخذلهم العالم. وأظهر عزمه على تجاهل كل الاسباب التي فجرت الثورة متخيلاً قدرته على وقف عقارب الساعة، ويساعده في وهمه هذا عالم لا يخفي انحيازه الى الطاغية ولا مبالاته بمآس انسانية لا تليق بغير عصور التوحش.
ويفترض الأسد ومؤيدوه انهم وجهوا رسالة الى السوريين تزيد يأسهم من الخروج من هذا الكابوس. ويظنون ان الانتخابات هي النتيجة السياسية للنجاحات الميدانية التي حققوها في الشهور الماضية وأن الثورة قد قضت نحبها. لكن من قال ان الاموات، حتى وان خرجوا في يوم النشور الانتخابي، سينتصرون على الحياة؟


حسام عيتاني 

 

 


 

الجمعة، 1 فبراير 2013

الحق في الاستبداد


حسام عيتاني
الجمعة ١ فبراير ٢٠١٣
ما زال الرئيس المصري محمد مرسي يسيء تفسير التفويض الممنوح له. أثبت بإصداره الاعلان الدستوري في تشرين الثاني (نوفمبر)، ان رؤيته ورؤية الجماعة التي ينتمي اليها الى الانتخابات التي جاءت به رئيسا، تقتصر على «الحق في الاستبداد» وليست تفويضاً مشروطاً بشروط القانون والدستور.
اضطر مرسي الى التراجع المهين عن الاعلان بعد أيام من التظاهرات الضخمة التي رسمت حدود نفوذ «الجماعة» خصوصاً في القاهرة والمدن الكبرى. وساهم تمرير الدستور في كانون الأول (ديسمبر) ليزيد الصورة تعقيداً: ان شريحة مهمة من الشعب المصري تؤيد سياسات الاخوان المسلمين.
ويبدو ان الحزب الحاكم الجديد في مصر يتعلم بالطريقة الصعبة. التجربة والخطأ. وحتى الآن تبدو الأخطاء أكبر بكثير من الإيجابيات التي يمكن ان تُنسب اليه. فدوافعه الموضوعية والإيديولوجية وضعت فوز مرسي والنجاح في تمرير الدستور في خانة التأييد لبرنامج «الأخوان» السياسي وليس في خانة اكثر تواضعاً تقوم على غياب البدائل الحقيقية وافتقار المعارضة الى الحضور الشعبي العريض والى البرنامج المفهوم والمقبول على المستويين الاجتماعي والاقتصادي. فلا عجب أن تتحول الانتصارات التي حققها حزب الحرية والعدالة في أذهان قادته الى دعوة شعبية الى ممارسة الاستبداد على الطريقة القديمة، معطوفاً على جمهور كبير شديد المحافظة والتدين.
في المقابل، ورغم الأخطاء الكارثية التي أوقع «الأخوان» أنفسهم فيها، لم تتمكن المعارضة منذ الاستفتاء على الاعلان الدستوري في آذار (مارس) 2011، من تحقيق أي انتصار في صناديق الاقتراع. وكلما استُدعي المصريون للإدلاء بأصواتهم يختارون الجانب الذي يناصبه الثوار العداء. هذه حقيقة جديرة بالتأمل.
على أن ذلك لم يسحب ما يرى الثوار فيه مكتسباً استراتيجياً حققته الثورة لهم وهو «الحق في العصيان». فالانتخابات ونتائجها واخفاقات الثوار فيها - بغض النظر عن التبريرات والتفسيرات عن نسب المشاركة التي لا تخلو من وجاهة - لا تكفي لإقناع المعارضين وكتلتهم الصلبة بالامتناع عن الاستعانة بالشارع للتعبير عن رفضهم سياسات مرسي وحكومته وحزبه. ولا بالتسليم بسيرورة العملية الديموقراطية والارتضاء بما اختارته الكتلة الأكبر (الناشطة) من المصريين.
والحال ان النقص في شرعية الحكم القائم وإصرار المعارضة على العمل المباشر، ينبعان من جذر واحد هو غياب العقد السياسي او الاجتماعي الميثاقي.
وواضح من الأسلوب الذي جرى تمرير الدستور الجديد به، ان «الأخوان» فضلوا ضرباً من الصفقات والتسويات الفئوية. فكرسوا بقاء الجيش، في نص ميثاقي، بعيداً عن الرقابة بعد ان كانت هذه الممارسة بمثابة العرف غير المكتوب منذ عهد الرئيس جمال عبدالناصر. وقدموا للتيارات السلفية بعض التنازلات في المواضيع الاجتماعية، وسايروا كبار رجال الاعمال في تهميش قضايا العدالة الاجتماعية.
ما من كشف في القول ان الدساتير لا تصاغ بهذه الطريقة حتى لو أقرتها الاستفتاءات. وان النصوص الميثاقية الكبرى تعبّر عن التعاقد الذي توصلت اليه أطراف المجتمع وقواه الحية. هذه الثغرات، الشديدة الاتساع والخطورة، هي ما يمنح المعارضين الثوريين «الحق في العصيان» من دون ان تكون لديهم القدرة على استدخال تغيير جذري قريب في المشهد السياسي، ومن دون ان يبدي الحزب الحاكم أي رغبة في استخلاص الدروس اللازمة من ممارسته الضحلة للسلطة.