الجمعة، 20 يونيو 2014

التكفيريون الذين صنعناهم

مجلة "بدايات"

حسام عيتاني


باتت دارجة نسبة جماعات مسلحة وسياسية الى "الفكر التكفيري" وسوق استنتاجات وخلاصات تقوم على الهوية الفكرية الحاملة للإقصاء الكامل للآخر وصولا الى الغائه الجسدي. ودخل المصطلح حيز التداول اليومي بين مُتّهِم وبين مُتَّهَم يسعى كل منهما الى تثبيت وصمة التكفير السوداء على خصمه.

يفترض من يلجأ الى الاستخدام الكثيف للمصطلح أنه يوجه ضربة قاضية الى الطرف الآخر الموسوم بضيقه بالاعتراف بالاختلاف والتنوع ضمن البيئة الاجتماعية الواحدة. وانه، هو الرافض للتكفير، رحب الصدر بكل تعدد في الهويات الدينية والثقافية.

لا مفر من التأكيد على ما يكاد يلامس البداهة: كل فكر ديني، بغض النظر عن اسم المذهب الذي يتبعه، يرتكز الى تكفير الآخر. مقولة "الفرقة الناجية" و"الجماعة المنصورة"، اكثر اتساعا وعمقا من ان ترتبط بمذهب واحد ناهيك عن دين من الاديان. والتكفير، في نهاية الحساب، يشكل الوجه الآخر للانتماء الى أي جماعة دينية او سياسية او "فوق-عرقية". ذلك أن الايمان نادر في عرف الجماعات القائمة على اللُحّمة الايديولوجية والدين أحد اشكالها، فيما الكفر وافر. يفضي البحث عن الطُهرانية والنقاء الديني والايديولوجي الى احتكار الايمان والتقوى والصواب السياسي والى جماعات مغلقة غالبا ما تتبنى ايديولوجيات ألفية (Millenarianism ) تنتشر على امتداد الطيفين الديني والسياسي. جماعات من أقصى اليمين الى أقصى اليسار لا تختلف كثيرا في منظوماتها القيمية وفي تأليهها لقادتها عن الطوائف الدينية. منظمة "مجاهدي خلق" الإيرانية التي بدأت كيسار اسلامي متأثر بأفكار علي شريعتي لتنتهي طائفة "تقدس" مسعود ومريم رجوي، قد تكون من الامثلة الحديثة على المنحى المذكور.  

وفي واقعنا، كثيرا ما تجري استعادة الحروب الطائفية واسقاطها من التاريخ على الحاضر وتحميلها دلالات ليست لها. فإلى جانب المثال الشهير في الحروب الصليبية الذي تراجعت استخداماته بسبب تبدل سمات الصراعات الراهنة، تحضر حروب الردة واحداث الفتنة الكبرى ومعركة كربلاء نماذج على حوادث الحاضر بل كتفسيرات تلقى القبول لأحداث جارية يقال ان جذروها تضرب في صراع يزيد بن معاوية والحسين بن علي. وهناك من يستسهل التذكير بالحروب والمجازر المتبادلة بين السنة والشيعة في العصر العباسي (خصوصا في حقبة الدولة البويهية) وتنكيل الخلفاء بالشيعة بل وتسليم بغداد الى المغول من قبل الوزير ابن العلقمي، كعلامات على عداء جذري لا علاج له بين الطائفتين السنية والشيعية.

ولا يصعب العثور على "تأصيل" للعداء هذا في أدبيات قديمة وجديدة لأئمة وعلماء وفقهاء يتوزعون على جانبي الانقسام. ابن تيمية وابن القيم الجوزية والبربهاري من جهة والكليني والمجلسي والجزائري من الجهة المقابلة. نواصب يقاتلون روافض منذ فجر التاريخ وسيظلون على الحال هذه الى يوم الدين. هذا ما يُطلب من مواطني القرن الحادي والعشرين ان يصدقوا.

غني عن البيان ان المقاربة هذه تتجاهل الطبيعة العاصفة بالصراعات التي كانت عليها حقبات مديدة من التاريخ العربي –الاسلامي والتي لم تقتصر بحال على الاحتراب السني – الشيعي، إذ يحضر بقوة، في تاريخ تهمله الايديولوجيا القومية العربية، سلسلة لا تنتهي من الحروب الاهلية القبلية عمت كل الحقبتين الاموية والعباسية، بين تحالفات قبلية عربية صميمة وشديدة "الأصالة". يصعب العثور على الانقسام السني – الشيعي في حروب القيسيين واليمنيين وفي مئات المناوشات والاشتباكات والحروب الصغيرة والكبيرة التي عمت المنطقة العربية وكانت سابقة على الفتح العربي في القرن السابع الميلادي. يضاف الى ذلك أن النصوص المستخدمة في تكفير الآخر والتي تعود الى مئات الاعوام، تطفو الى سطح الخطاب الطائفي ثم تختفي وفقا للتوتر ولضرورات التوظيف السياسي وليس بوصفها حقائق "جوهرانية" من الايمان.

عليه، يتشارك كثر في تبني التكفير أداة في التعامل مع التعدد. وعقلية القلعة المحاصرة "الماسادا" وابتكار المزيد من التقاليد المحفزة لحمية الجماعة والقائلة بعصمتها واستثنائية زعامتها واعتبار قتال الشركاء في الوطن، بغض النظر عن اسم طائفتهم، اولوية تعلو مواجهة الاخطار الخارجية، ضروب من التكفير لا تخفى على عين يقظة. خصوصية التكفير السني تنبع من مكان آخر. من حقيقة انتشاره بين الأكثرية الطائفية والدينية في المشرق التي طالما نظرت الى نفسها باعتبارها حاضنة الاعتدال والوسطية والأهم بصفتها جسم الامة الذي يحتمل بل يرعى باقي المكونات. بغض النظر عن صحة وتماسك هذا التصور امام المساءلة التاريخية.

مهما يكن من أمر، ارتفع خطاب العداء السني- الشيعي في العقد الأول من القرن الحالي لأسباب لا علاقة لها بالشقاق الفقهي والمذهبي. وكان من السهولة بمكان العثور على الغطاء الايديولوجي الديني لصراعات سياسية حديثة سال الكثير من الحبر في تشخصيها ووصفها، مثل النهوض الايراني ومشروعه الامبراطوري ومشكلة الاقليات في المشرق العربي منذ نهاية الحرب العالمية الاولى وتقسيم ارث السلطنة العثمانية واخفاق مشاريع العروبة البعثية والناصرية والانظمة التقدمية  والرجعية سواء بسواء والتخبط في كل التصورات التي قامت لمواجهة اسرائيل واستعادة الحقوق الفلسطينية وغير ذلك من الاسباب. بكلمات ثانية، افلاس مشروع الدولة الوطنية العربية.

على مسرح يعمّه كل هذا الخراب، يظهر الاسلام التكفيري ممثلا نشيطا مؤديا دوره بقدر كبير من الاقناع. والمجتمعات العربية التي تجتاحها عولمة لا تني تدفعها الى هوامش الفعل والحضور العالمي وما يرافقهما من تقدم اجتماعي واقتصادي وعلمي، من جهة والفشل المدوي في الداخل من الجهة المقابلة، لا تجد أمامها إلا العودة الى الانتماءات الأولية القائمة على الهوية الدينية والقبلية. وليس غريبا أن تكون المناطق المهئة أكثر من غيرها لاستقبال الاسلام التكفيري هي ذاتها التي تشعر بالتهميش السياسي والاجتماعي. البوادي العراقية والسورية وعلاقة عشائرها (المتقلبة، لا بد من هذه الملاحظة) مع تنظيم "دولة الاسلام في العراق والشام" ("داعش") مثال ساطع على هذا اللقاء.

لا يهم كثيرا هنا ما يحمله الاسلام التكفيري من "عدة معرفية" اذا جاز استخدام هذا التعبير او ايديولوجية. فهي تقوم على سلّم من شُعبتين: التركيز على الهوية الجمعية المهددة من الخارج (الشيعي- المسيحي- المؤيد للحكم القائم...) والاعتقاد ان حروب الهويات مستمرة الى ما لا نهاية له ما يفسح في المجال امام استغلال مناخات الذعر والتشبث بمصادر الامان الاجتماعي النسبي (الطائفة، العائلة، المنطقة). الشُعبة الثانية هي الاعتقاد بقدرة القوة العارية على حكم المجتمعات المسلمة. تستعيد التنظيمات التكفيرية هنا نهج الأنظمة العربية مع دفعه الى حده الأقصى. ويمكن العثور على الكثير من المتوازيات بين التكفير الاسلامي بمعناه الرائج اليوم وبين ممارسات سلطات الاستبداد العربية من منع كل تعبير سياسي او ثقافي او اجتماعي لا يتوافق مع المنظومة الرسمية للقيم "الصائبة".

تجوز هنا استعادة بعض رسائل قادة "الدولة الاسلامية في العراق والشام" كأبي عمر وأبي بكر البغدادي التي يبرز فيها ما يصطلح على تسميته "فقه الغلبة" القائم على حق جماعة المؤمنين في فرض سلطانهم بالقوة. وبديهي ان هذا النوع من التفسير للنص الديني لا يعكس غير جانب ضيق من معنى الدين ويحيل الى الهاجس الحقيقي لانصار هذا النوع من التدين وهو الوصول بكافة السبل والوسائل الى السلطة.

وفي بعض المراسلات والنقاشات التي جرت بين الاسلاميين في سوريا خصوصا في العام الماضي، اشتكى اسلاميون كثر من استحالة النقاش مع عناصر "داعش" المسارعين الى تكفير خصومهم والى رميهم بتهم الزندقة والخيانة والانتماء الى "الصحوات" وما شاكل. تفحص النقاشات هذه والمستوى الفقهي الراقي الذي حاول بعض الاسلاميين السوريين اقناع "داعش" بخطأ ممارساتها الاستفزازية للسكان واباحتها للاعتداء عليهم وعلى املاكهم، لا يُظهر فقط ضحالة العدة النظرية عند التكفيريين فقط بل أيضا تلبسهم حالة سلطوية لا تقيم وزنا كبيرا لأصول الفقه وخصوصا فقه المعاملات، وللخلفية الاخلاقية التي يُفترض أن تسود التعامل بين المسلمين.

لا يعني ذلك بحال ان تنظيمات الاسلام السياسي الاقل تطرفا لا تولي السلطة اهتماما مركزيا في نشاطها. على العكس. فالسلطة هي ما يهمها في المقام الاول على ما بينت تجارب "الاخوان المسلمين" في مصر و"حركة النهضة" في تونس. لكن الفارق يتركز في الانتماء الاجتماعي الذي يأتي الناشط الاسلامي السياسي منه. قسوة التهميش والحرمان وانسداد افاق الترقي والتعبير والتغيير، ترفد كلها صفوف اسلاميين اصدروا حكمهم باعدام كل من يرون فيه سببا لمعاناتهم الفردية والجماعية.

تفتح هذه المناخات أبوابا واسعة أمام انواع شتى من التوظيف والاستغلال من قبل أجهزة وقوى تخترق التنظيمات التكفيرية وتتحكم بها بسهولة. ذلك أن اسلوب التزكية المشيخي (تزكية شيخين للعضو الجديد) المعتمد في الانتساب الى الجماعات التكفيرية المسلحة يساهم في جعل ابواب الجماعات مشرعة امام كا من هب ودب. ويجزم ناشطون سوريون، على سبيل المثال، ان تنظيم "داعش" تحركه اجهزة الاستخبارات السورية والايرانية. أدلتهم على ذلك تمتد من عدم مشاركة "داعش" في أي معركة ضد النظام الذي لم يبادر الى قصف مقرات التنظيم، وصولا الى اختطاف وتصفية ناشطين مشهود لهم بالاخلاص للثورة السورية.

لكن الأهم من هذا، سؤال عن قدرة تلك الجماعات على التكيّف والعمل في مجتمعات يُعتبر التعدد الديني والعرقي والسياسي والاجتماعي من أسس قيامها. بالاحرى، كيف لجماعات تقوم على التكفير ان تمارس السياسة بما هي ادارة للاختلاف والتنوع وحوار دائم وصراع غير مسلح في غالب الأحيان مع القوى الحاضرة في المشهد العام. فانهيار حكومات الطاغوت والسلطان الباغي، العدو الأول المُعلن لجماعات التكفير، لا ينهي المجتمعات التي تنشط فيها الجماعات تلك ولا يغير صفاتها ومكوناتها.

التجارب الحديثة تقول بما لا يدع مجالا للشك أن فقه الغلبة والشوكة، لا يترك مساحة لتعايش سلمي او تنافس سياسي بحده الأدنى. فالسلطة في عُرف الجماعات تلك تعني التحكم بكل مفاصل الحياة في البيئة التي تسيطر عليها. وقد لا يبدو ذلك شديد الصعوبة على قادة الجماعات في مناطق ينشغل اهلها بالحفاظ على حياتهم وعائلاتهم ورزقهم، كالمناطق الصحراوية في العراق والشام حيث تبدو العشائر صاحبة الدور الاجتماعي الأول، لكن الأمر يتحول الى صدام رأسي ما ان تتمدد الجماعات تلك الى نواح مركبة ومتنوعة.

عليه، تبدو ثمة هوة شاسعة بين ادعاءات التكفيريين (السنّة) بالعمل على اقامة الحكم العادل وبين قدراتهم الفعلية على البرّ بوعودهم. وبين مواقفهم من انظمة الاستبداد، وبين التعايش مع المجتمعات التي تتخلص من نير الطغيان. وبغض النظر عن التوظيف والاستغلال الامنيين للتكفيريين، يجدر النظر اليها بصفتها مرحلة متقدمة من ازمات المجتمعات العربية والاسلامية ونتائج للرضّات والصدمات التي تعرضت لها تلك المجتمعات أكثر من اعتبارها أخطارا هبطت من كوكب آخر.

حسام عيتاني

 



   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق