الأحد، 6 فبراير 2011

وتيرتا لاهاي

في لاهاي معضلات أخرى غير تلك التي في بيروت، فالمحاكم الدولية المنتشرة في المدينة وفي ضواحيها حائرة بالوظائف التي أناطها بها المجتمع الدولي، على نحو صار بوسع زائر عابر سماع ضجيج القاعات المغلقة التي يتناقش فيها قانونيون حول "ما يعوق العدالة الدولية". ولعل في الكثير من هذه النقاشات ما يضفي على انقسامنا كلبنانيين حول محكمتنا، تلك التي أنشأها لنا مجلس الأمن الدولي، بعض الدلالات المختلفة.

أحد عناوين النقاش في لاهاي، وهو غير مرتبط حصراً بمحكمتنا، هو ذلك الفارق بين الوتيرة السياسية لتأسيس المحاكم، والوتيرة القانونية. فالمحاكم الدولية الخاصة (يوغسلافيا – رواندا- سيراليون-لبنان) أُنشئت بقرارات سياسية، أصدرتها أعلى هيئة سياسية دولية، هي مجلس الأمن. وصدرت هذه القرارات بلحظة سياسية أحاطت بها ظروف، وحركتها رغبات وإرادات دولية، أفضت الى تكليف قضاة وقانونيين بالسير في قضية وفق منطق قضائي ومسار طويل يقتضي السير به وقتاً وشروطاً وقواعد لا تقيم للحظة السياسية تلك وزناً وقيمة.

لكن وفي جميع حالات اشتغال السياق العدلي والقضائي، وسيره البطيء والحذر، يحصل ان الظروف السياسية التي أنتجته، تتبدل على نحو دراماتيكي. ومن دون الإتيان بأمثلة بعيدة عن هذا التبدل، يمكن استحضار الحالة اللبنانية بصفتها النموذج الأقرب زمنياً على هذا الصعيد. فالمحكمة اللبنانية أنشأها قرار دولي في لحظة سياسية دولية شديدة الاختلاف عن ما أعقبها، سواء لجهة الأطراف الدولية، او المعادلة السياسية الداخلية. فالأعضاء الدائمون في مجلس الأمن ممن كانوا أشد حماسة لتأسيس المحكمة، وهم الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا، تغيرت ادارات الحكم فيهم على نحو جوهري، وتغير فيها المزاج السياسي أيضاً. صرنا في لحظة سياسية مختلفة تماماً، فيما اللحظة القضائية هنا في لاهاي ما زالت سائرة ببطئها ورتابتها العتيدة غير آبهة بذلك الضجيج السياسي الذي أحدثته التبدلات في دول القرار الدولي.

الصدام يحصل هنا، اذ ان العدالة في سيرها البطيء هذا تعوزها قوة دفع سياسية ما عادت توفرها الشروط الجديدة. صحيح ان التزام الدول تلك بتعهداتها المالية والسياسية حيال المحكمة لا يغيرها تبدل ادارة وحزب، لكن قوة الدفع تتراجع لمصلحة ترك المسار العدلي ليشتغل من دون وقود إضافي قد يحتاجه. فيصبح سيره رتيباً، ويتحول دأب القضاة والقانونيين في أروقة محاكمهم الى عملية تقنية مجردة من مضامينها الاجتماعية والسياسية.

قد يخدم هذا المصير نظرية تجرد العدالة من الدوافع السياسية والانحيازات، واشتغالها على وقع القوانين... فقط القوانين. لكن هنا في لاهاي لا يعيش مجتمع المحاكم الدولية على وقع همومنا وهواجسنا. السياسة هنا لا تعني انحيازاً او ريبة في القرارات التي تُصدرها المحاكم. السياسة في وعي مجتمع العدالة الدولية هي تدبير شؤون الدول، وهي الصالح العام. وعندما تفقد قضية ما حماسة السياسة لها، تفقد عامل دفع تحتاجه في سيرها وعملها. هذا الأمر، وان لم يكن شرط اشتغال المحاكم الدولية، لكنه شرط سرعتها، وصحيح ان محكمة دولية واحدة لم يوقفها تغير في الظروف السياسية التي أنتجتها، لكن الظروف السياسية نجحت في تأخير وتبطيء الكثير من أعمال المحاكم.

المحكمة الخاصة بلبنان محكومة بهذه المعادلة، وهي وان تكون قد نجت من تبدل الظروف التي انتجتها، وما زالت متمتعة برعاية دولية ملحوظة، لكنها تنتظر من دون شك محطات تبدل أخرى. والسباق بين الوتيرتين السياسية والقضائية محكوم بسرعة السياسة وبطىء المسار القضائي. والأطراف اللبنانية المعنية بمسار المحكمة يعمل بعضها على تسريع الايقاع السياسي ليسبق الايقاع القضائي، فيما بعضها الآخر عاجز عن تسريع الايقاع القضائي.

الارجح ان هذا هو جوهر المشهد السياسي اللبناني، الذي تكثفت صوره في الاسابيع القليلة الفائتة. هذا هو معنى ما جرى من استقالات للوزراء ومن تكليف لرئيس جديد للحكومة. وهذا ما يجب احتسابه خلال التفكير بمستقبل الحكومة الجديدة، اذ ان مهمتها وفق هذا المنطق خوض سباق مع استمرار الرغبة الدولية في عمل المحكمة. فهل سيتمكن الرئيس نجيب ميقاتي خوض السباق؟

حازم الأمين- "ناو ليبانون"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق