الجمعة، 11 مارس 2011

في تكريم جورج طرابيشي*





تبدو محاولة سرد سيرة جورج طرابيشي الشخصية والفكرية أو سبرها، باعتماد أسلوبه وطريقته، من الأمور التي تشق على الباحث.

فلطرابيشي تلك الطريقة التي تشبه البحث عن أثار سير النمل والتدقيق فيها على كثبان رملية تغير الريح معالمها كل بضع ساعات. وأكاد أجزم أن جَلَده وتأنيه في البحث والتمحيص وملاحقة المصادر والأصول هي مما يثير حنق كتابٍ كثرٍ سقط بعضهم في العسير من امتحانات طرابيشي.   

واعترف أنني تأخرت في اكتشاف طرابيشي الكاتب والباحث والمؤلف. وبعد قراءات غير منهجية لترجمات ماركسية وفرويدية، تعرفت اليه عن طريق مقال صحافي تناول كتابه "نظرية العقل" أو الجزء الأول من مشروع "نقد نقد العقل العربي". لا أرغب في العودة الى تلك المعركة بين مشروع "نقد العقل" ومشروع "نقد نقد العقل" لكثرة ما جرى تناولها والحديث عنها. لكنني أود فقط تسجيل مشاعري عند وصولي إلى الصفحة الأخيرة من "نظرية العقل". لقد شعرت بمزيج من الأسف والاعتزاز. أسف على تكرار وقوعنا، كقراء عرب، المرة تلو المرة ضحايا عمليات تزييف واحتيال بل أسمح لنفسي بوصفها بعمليات النصب التي ما كنا لننتبه الى فداحتها وخطورتها لو لم يتنكب هذا العبء كاتب مثل جورج طرابيشي، يشكل - ببساطة - مصدر اعتزاز لكل قارئ بالعربية اليوم. اعتزاز لأن استغباء القارئ العربي صار أصعب.

وكنت مع قراءة كل كتاب من المكتبة الغنية من مؤلفات طرابيشي، في الفلسفة او النقد الأدبي أو البحث المعرفي في التراث العربي الإسلامي، أجد نفسي أمام أسئلة جديدة عن دور الثقافة العربية في كسر حلقات التأخر والاستنقاع والتخلف التي ندور فيها، كشعوب وأنظمة وأشكال حكم وآليات تفكير منذ قرون. ويبدو لي أحياناً أن جورج قرر الاكتفاء بطرح الاسئلة، خصوصا الصعب منها، علينا، قبل أن يتابع رحلته التي تقوده فيها حوافز ودوافع لا نفقهها كلها.

واحد من الاسئلة المطروحة يتعلق بكثرة المحطات في رحلته. بيد أن من ولد في 1939، يبدو التأثر بل الانخراط في التيارات السياسية والفكرية الجارفة من بداهات الانتماء إلى العصر. ومع طرابيشي حل الانتماء باكرا. ومن البعث الى الماركسية فالوجودية وإلى الغوص في التحليل النفسي الفرويدي ثم الابحار في اوقيانوس التراث العربي- الاسلامي، تختصر هذه الرحلة رحلة جيل  عصفت به أحداث كبرى من الحرب العالمية الثانية الى نكبة فلسطين "فالثورات" والانقلابات العسكرية العربية ثم صعود القومية وجمال عبد الناصر ...الخ وصولا إلى هزيمة 1967 التي لم نستفق من الغيبوبة التي أدخلتنا فيها بعد. 

المشكلة التي تواجه قارئ طرابيشي هي محاولته الحصول على موقف سياسي واضح من الكاتب، على طريقة "الاستصراح" التي يستخدمها بعض الصحافيين اللبنانيين مع سياسيينا. يريد بعض القراء أن يحدد جورج موقفه بدقة من هذه المسألة السياسية أو تلك. والقراء العرب يطلبون الكثير من العاملين في شؤون الفكر. ويذهب البعض إلى حصرهم أو حصارهم في مواقف ضيقة بل حزبية. وما يشفع للقارئ العربي في الحاحه على المثقف الادلاء بموقف صريح في السياسة الراهنة، هو الحالة المزرية التي بلغتها أحوال حكوماتنا واحزابنا، المُوالي منها والمُعارض، ووسائل اعلامنا واجتماعنا وثقافتنا. ويمكن، في السياق هذ، النظر إلى التراث  العربي –الإسلامي كسجل للعلاقة المضطربة بين مكونات المجتمعات والمثقف الواقع في خضم آلات القمع السلطوي، الممارس من الحكم أو من المجتمع أو من الدين.   

وطرح جورج طرابيشي عدداً من المسائل السياسية الراهنة في كتبه. كالعلمانية والاسلام السياسي. بيد أن مسائل مثل النهضة العربية والحداثة والعقلانية وأخطار الردة، احتلت مقاما متقدما لديه على المقاربات الآنية.  كتاب "هرطقات" بجزئيه، على سبيل المثال، علامة على الانشغال بالراهن السياسي مع الأخذ في الحسبان الدلالات الثقافية، او بالعكس، أي دراسة الدلالات السياسية والاجتماعية للعمل الثقافي، بحسب ما يظهر من المقال المخصص لرواية نجيب محفوظ "رحلة ابن فطومة".

وفي مجال العمل العام او التأثير فيه، قد لا يكون من المبالغة القول ان جورج طرابيشي كان واحدا من شخصيات اليسار الجديد في الستينات والسبعينات الى جانب صديقيه الياس مرقص وياسين الحافظ.

ويقول جورج طرابيشي  في سيرة ذاتية مختصرة "على أن الفجيعة الكبرى في حياتي كانت هزيمة حزيران المذلّة عام 1967. ولكنها كانت هي أيضاً عامل التحول في وعيي من العقل الإيديولوجي الى العقل النقدي. وقد مرّ هذا التحول بمراحل ثلاث: من المرحلة القومية العربية الى المرحلة الماركسية بطبعتها الوجودية السارترية ذات النَفَس النقدي. ولكن انتصار سارتر للثورة الثقافية الصينية ولكتاب ماو الأحمر أحدث انتفاضة جديدة في وعيي وحسّي النقدي، فكان تحولي نحو الفرويدية وإقامتي في قصر التحليل النفسي وسجنه معاً على مدى سنوات عشر تزامنت مع هجرتي من سورية الى لبنان، أي من وطني بالولادة الى وطني بالإرادة كما كنت أقول دوماً عن هذا البلد الذي أحببته والذي ما زادتني آلامه إلا حباً له بعد أن أقمت فيه اثني عشر عاما ً. ومنه هاجرت –وقد أتعبتني حربه الأهلية- الى فرنسا حيث لا أزال أقيم منذ عام 1984."

وحتى الآن أزعم أنني لم أحط سوى بجزء يسير من عوالم جورج طرابيشي. في رحلته من الدراسة الى التعليم الى العمل الاذاعي ثم رئاسة تحرير "دراسات عربية" ثم اصدار مجلة "الوحدة" في باريس، قبل التفرغ الى الكتابة. يحف بهذا كله عشرات من الكتب المترجمة (يزيد عن المئة) ومقالات أكثرها في عرض ونقد كتب جديدة.

تنوع المهن يسير يدا بيد مع تنوع واتساع في الاهتمامات. وإذا قمنا باسترجاع عناوين فصول "وحدة العقل العربي الاسلامي" الصادر عام 2002 ضمن مشروع "نقد نقد العقل العربي"، لوجدنا طيفا عريضا من الاهتمامات يمتد من الفلسفة اليونانية الى تلك العربية مرورا بالفقه الاسلامي (الذي سيكون لطرابيشي وقفة طويلة معه في كتابه الذي وقعه اليوم، "من اسلام القرآن إلى اسلام الحديث- النشأة المستأنفة") إلى اللغة وفقهها.

هموم او اهتمامات طرابيشي تمتد لتبلغ كتابات حسن حنفي في "ازدواجية العقل"، وروايات حينا مينا ومبارك ربيع في "الروائي وبطله"، حيث استخدم في الدراستين ادوات التحليل النفسي والجمالي. في القسم الاول من الكتاب، يقدم لنا عرضا نادرا في الادبيات العربية، لآليات التعويض النفسي حيث يحل الحزب القائد واوهامه الايديولوجية مكان الأب في الاسرة البطريركية الشرقية. ليس النموذج هذا سوى عينة مما يحملني على القول انه تبدو لي غاية في الأهمية الآثار التي تركتها المرحلة الفرويدية على طرابيشي، لكننا نرى ايضا آثار ترجماته لهيغل وأعماله في علم الجمال الكلاسيكي.

لكن ما هو التعريف الأقرب إلى وصف "حالة" جورج طرابيشي، إذا جاز القول. هل هو "مفكر" أم ناقد؟ السؤال هذا يبدو صادرا عن هوس يلاحقنا، كقراء، بالتصنيفات والتعريفات. لذا نقول ان طرابيشي في تفنيده لمشروع نقد العقل العربي، الذي كان المشروع الفكري للراحل محمد عابد الجابري، أظهر كل صفات الناقد الصارم الذي يلاحق عمله إلى أدق التفاصيل كأرقام الصفحات في المصادر المستخدمة ورقم الطبعات ومساءلة الترجمات المعتمدة، ووضع كل "الممارسات" النقدية هذه في خدمة غاية واحدة هي عرض نقاط الضعف في البنيان المنقود والرؤى الاحادية والمضللة التي أقيم البنيان ذاك عليها. في احيان يخرج جورج طرابيشي علينا كفيلسوف واحيانا اخرى نراه ناقدا ادبيا وفي كتبه الجديدة نجده فقيها مجادلا المذاهب واهلها وائمتها ومن دون ان ننسى االغوي. لكنه في المرات كلها يفعل ذلك بحرص شديد ودقة، اقول بأسف انهما غير مألوفين في عالمنا العربي.

والكتب التي خصصها جورج طرابيشي لنقد مشروع الجابري، والكتب المتفرعة عن النقد هذا كـ"المعجزة في الاسلام" و"مصائر الفلسفة بين المسيحية والاسلام"، تدمج صفتي "الناقد" و"المفكر". لم يقدم ضيفنا اليوم مشروعه في كتاب او سلسلة كتب محددة، وان قال في غير مكان ان الكتب الخمسة (أو الاربعة إذا سحب منها كتاب "من اسلام القرآن...") التي نقد فيها "نقد العقل العربي" اكتسبت استقلالها وباتت تشكل مشروعا منفصلا عن سببها المباشر.

واذا شئنا صوغ مشروع جورج طرابيشي في كلمات أو جمل موجزة، لقلنا أن الرجل يبحث في ما كوّن الثقافة العربية المعاصرة وفي ما يمكن أن يغيرها. من هنا اهتمامه بالابيستمولوجيا ومحاولته اعادة وضعها في نصابها. ومن هنا صراعه الدائم مع كل انواع الابتسار والاختزال سواء من النوع الرامي الى فرض صور نمطية على الحضارة والفكري العربيين –الاسلاميين، أو ذلك الناجم عن قلة الدراية والقافز صوب بناء استنتاجات كبرى تأسيسا على معرفة ناقصة ومشوهة. وكُتبُ جورج طرابيشي غنية بالأمثلة التي يسوقها كاتبها للحيلولة دون نشوء أي شبهة او ظل شبهة. كاللائحة التي ارودها في "نظرية العقل" لاسماء الثلج وأصنافه باللغة العربية ردا على قائل ببداوة اللغة العربية والتصاقها التام ببيئة صحراوية ضحلة وفقيرة اسفرت عن فقر في الخيال. اسلوب ادراج المصادر واللوائح التي تضرب مقولة الخصم كالطوفان، نجدها في مواضع مختلفة، بحيث لا يعود من مجال للشك في ما يذهب اليه طرابيشي.

وإذا أردت ان اكمل الصورة، لقلت أنني على اطلاع على النقد الموجه الى مؤلفات جورج طرابيشي وأن بعضا من النقد هذا يسـتحق نقاشا موضوعيا. أي من صنف النقاش الذي يتطلبه نقد طرابيشي لمؤلفات كتاب آخرين امتنعوا عن خوض هذا اليم مفضلين البقاء قرب الشاطئ آمنين.
                                                               حسام عيتاني

____________________
*القيت في الحفل الذي اقامته "الحركة الثقافية في انطلياس" لتكريم جورج طرابيشي في 6 آذار 2011








     


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق